السائق لا يقود اللاجىء إلى المكان الذي يريد

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 أيلول 14 3 دقائق للقراءة
السائق لا يقود اللاجىء إلى المكان الذي يريد
© دار المصّور
يتناوب اللاجىء وسائق سيارة الأجرة التي تقلّه، على اختلاق سيَر مضادة، لتلك التي يملكانها. فالسيَر في وضعهما أقرب إلى المؤقت الحياتي منه إلى الرغبة. تلك الأخيرة تكاد تنعدم لدى الطرفين بفعل الاعتياد وقبول المتاح، ما يستدعي خلق سيناريوهات وقصص دراميّة وحكايا أسطوريّة تحيل الفراغ الرغبوي إلى احتمال متخيّل يجبّر قليلاً من كسور الذات أو يحاول تأجيل تداعياتها.
مهنة السواقة تشبه اللجوء، ليس بوصفها تشرداً عبثياً في طرق المدينة، بحثاً عن الرزق، بل باعتبارها فعلاً مؤقتاً يقوم به صاحبه، اقتناعاً منه بأن ظروفه ستتغيّر، ويعود إلى طموحاته التي غادرها، مختفياً وراء المقود. الجملة الأولى التي يتفوّه بها جميع السائقين، هذه ليست مهنتي، أنا محام أو متعهد أو مهندس فني في احدى المحطات التلفزيونيّة. ما كان يريد لنفسه، يتحوّل دراما اختلاقيّة، فيبدأ سرد قصص عن عمله في المحاماة أو مغامراته في التعهّدات. إنها محاولة حثيثة للتخلص من عار السواقة.
لا يكرر اللاجىء الاستراتيجية ذاتها، رغم كرهه لصفة اللجوء ومحاولته التملّص منها. الاختلاق عنده لا يرتبط بالماضي، الذي يملك منه الكثير، وإنما ببلد اللجوء. هو يريد أن يخلق سيناريوهات تبعد عنه عار اللجوء، كأن يقول مثلاً أن أمه لبنانية ويعيش مع عائلته في بيروت قبل بدء الثورة.
ما يجهله السائق عن حياة اللاجىء يصبح هامشاً لتضخيم ذاته المشتهاة، وضخّها بما يلزم لتكون بديلاً سوياً يعوّض بعضاً من نفور المرء حيال نفسه.
أما الجهل المقابل، فهو خوف ممزوج بالحذر، أي سيرة مختلقة يجب اختيارها كي لا تستفز السائق المسيّس قطعاً؟ وكيف ستدور أحداثها بدون أن تمس ما يحصل في سوريا، فتحوّل الراوي موضوعاً بعدما كان صاحب النص، وتعرّضه الى سيل من الأسئلة ما يعرقل لعبة السرد والسرد المضاد.
لكن ما المانع أن يحصل خرق ما، فيدخل التجريب على السيَر المروية ويقطّعها بحوارات شخصية ومشاحنات سياسية حول النظام والثورة والمقاومة واستفادة إسرائيل مما يحصل. ربما يفتح ذلك مزيداً من الهوامش عند الطرفين ويمنح لعبة الاختلاق وظائف جديدة. فالرأي الذي يقوله، السائق أو اللاجىء، يصبح قليل القيمة بعد استئناف السرد المتوهّم عن الذات. كأن يقول الأول النظام في سوريا يؤمّن لشعبه جميع مستلزمات الحياة من ماء وكهرباء وتعليم وطبابة، ثم يعود إلى سيرته كما يحب أن تكون، فيقول خلال تجارتي عبر تركيا كنت أمرّ بريف حلب وأشاهد الفقر والحرمان. فيما يقول الثاني: النظام أخطأ التعامل مع شعبه خلال أحداث درعا الأولى، ويستأنف سيرته، بدّلت عدداً من البيوت الفخمة في بيروت وأعجبني السكن في الضاحية الجنوبية كثيراً، على عكس ما يشاع.
هكذا ينزع السرد المتخيّل، هوية الطرفين، يخفي ميولهما، وراء سيل من القصص الركيكة، العسيرة التحقق. ما يحوّل الاختلاق السردي فعلاً مزدوجاً، يضمر في وجهته الأولى الحيوات الحقيقيّة، حيث السائق، بدأ حياته وراء المقود، واستمر كذلك، واللاجىء غادر بلاده بدون أمل بأي تغيير. هنا، يتولى الوجهة الثانية للاختلاق حرف الانتباه عن الأسباب التي استدعت ذلك، وسط أحوال السرد المشتهى لا يستطيع السائق أن يلوم دولته ولا اللاجىء أن يلوم النظام، هما في المنطق الاختلاقي ليسا سائقاً ولاجئاً، إنهما هروب مستمر من هذين العارين.
وقد يبدو مفهوماً، أن لا يوصل سائق التاكسي، اللاجىء الذي استقل سيارته، إلى المكان الذي يريد. يوصله، ربما، إلى طريق فرعية قريبة من ذلك المكان أو إلى بداية طريق عامة. أما المكان المحدد فممنوع الوصول إليه.
أن يصلا معاً إلى نقطة اتفقا عليها، فذلك بعض من حقيقة لا يريدانها، هم أكثر انجذاباً إلى الاختلاق الذي صنع سيرتهما المضادة. أي حقيقة مهما كان حجمها قد تعيد السائق إلى لجوئه وراء المقود، هرباً من طموحات لم يحققها، واللاجىء إلى خيمة عارية، هرباً من قضية لا حل لها.
A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
08 نيسان 2024 بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
08 نيسان 2024
بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
تحميل المزيد