السينما تثير الذعر الأهلي... لبنان نموذجًا

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 13 9 دقائق للقراءة
السينما تثير الذعر الأهلي... لبنان نموذجًا
من فيلم «رصاصة طايشة» للمخرج جورج هاشم
من المستغرب، في حقبة مثل تلك التي نعيشها اليوم، أن يبقى الإنتاج السمعي البصري في لبنان في دائرة الاتهام، دائماً وأبداً. أصبحت الشاشة أول الأماكن تتعرض للدهم. إنها المتنفس الذي يكون دوماً ضحية سلم زائف. وهو سلم سيسقط يوماً، يا للأسف، من فرط ما أصبح يفرض على المواطنين شروطاً تعجيزية ليبقى ملاكهم الحارس. هامش البوح بما حصل في هذه البقعة الجغرافية منذ سبعينات القرن الماضي بات يضيق كل يوم أكثر فأكثر، لألف سبب وسبب.

الإلتفات إلى الخلف مسموح فقط لمن يأتي بهلوسة جديدة تضاف إلى مجموع الأكاذيب المتراكمة فوقنا. أما من يريد أن ينقل تجربته الصعبة والأليمة إلى أجيال لم تسمع عن الحرب إلا من خلال روايات أهاليهم، فهو يعمل ضد المصلحة الوطنية العليا التي تفرض على الضحايا الحقيقيين لعقد ونصف عقد من "الذبح على الهوية" الصمت والتجاهل. أحد المتهمين باستراق نظرة إلى ماض غير محبب كان أخيراً الفيلم الوثائقي "شو صار؟" (2010) لديغول عيد، هذا المخرج الذي أراد معرفة مَن قتل 13 من أعضاء عائلته في التاسع من كانون الأول 1980، ذاهباً إلى مواجهته في ساحة القرية بدم بارد وبلا خوف. هناك اعتقله بعدسته. لكن يا للمفاجأة: الدولة اللبنانية في غضون ذلك، أي في الزمن الفاصل بين الجريمة والحساب، أصدرت عفواً عاماً عن كل الجرائم التي ارتكبت...
ديغول عيد يقول موقفه من هذا المنع البغيض: "أعتقد أن مشكلة لبنان مع ذاكرته هي كمشكلة كل الدول التي عانت البربرية. نجد مثلها، أو ما يشبهها، في الجزائر وكوسوفو ورواندا. مع هذا القاسم المشترك، ومفاده أن هذه الحروب أدت الى مجازر في حق مئات الآلاف من المدنيين. لم يعد الأمر يقتصر على نزاع مسلح بين العسكر، إنما تعدّاه إلى حروب أهلية مرعبة، آثارها ماثلة في عمق هذه البلدان. مسألة الذاكرة الجمعية مطروحة في هذه الأمكنة جميعها، وغالباً ما تصطدم بعراقيل من الطبيعة نفسها. الأقليات النافذة لها مصلحة في أن تبقى الحقائق طيّ الكتمان. والسلطة، تفضّل، باسم الوحدة الوطنية، أن تطمر الماضي، بدلاً من طرد أشباحه. مع ذلك، كل العقلاء يعلمون أن السكوت لا يصنع المستقبل، وأن التابوهات لا تصلح الأمور، لا بل تؤجل المشكلة وتضخمها. هذا ينسحب على المستويين الفردي والجماعي. التروما التي عانى منها جيلٌ، لا بد أن تنتقل إلى آخر، وهكذا دواليك. دراسات عدة أظهرت عدداً كبيراً من المنتحرين الأرمن التابعين الى الجيل الثالث، نتيجة توريث لا يُحتمل، لم يكن يوماً مادة لنقاش علني. كل علماء النفس المتخصصين في النزاعات المسلحة يتوصلون الى الخلاصات عينها. أجيال عدة، ضحايا مجازر مباشرون أو غير مباشرين، يتربّون منذ الطفولة على التزام الصمت المطبق. هذا ما كان يتمناه مثلاً برنار كوشنير على منكوبي كوسوفو في نهاية صراعهم مع الصرب. نتيجة ذلك، كل هؤلاء الأطفال الذين يصبحون رجالاً، يتغلغل في دواخلهم عنف مدمر لا يتيح لهم صفاء العيش. الربط المستمر بين مسألة إشعال الفتنة والتزام الصمت، من أكثر الأشياء ضرراً. إلى الشعور بالظلم، يضاف إذاً الإحباط المتمثل في التزام الصمت. لا يمكن أن نجد أفضل من سلوك كهذا لإضعاف أسس لبنان الآتي. غالباً، كي لا أقول دائماً، لا تفيد محاولات إسكات الناس إلا مصالح المجموعات التي في السلطة، وهي مجموعات تصر على البقاء في مناصبها، مهما تكن مسؤوليتها في النزاعات الماضية. هؤلاء هم الذين يفرطون في ربط كل محاولة لتقديم شهادة بالعمل الثأري. هؤلاء يخلطون بين "تصفية الحساب" و"التقرير". تصبح الشهادة في منظارهم غير مفيدة وغير صحية وخطرة لأنها تهدد استقرار البلاد. تبنّي خطاب مماثل أمر غير مسؤول ويجب إدانته. السينما هي وسيلة بين وسائل أخرى تتيح لنا الإلتفات إلى الماضي بغية النظر إلى المستقبل بشكل أو بآخر. لكنها وسيلة شعبية وحساسة. إذا كنا نريد فعلاً بناء مستقبل لائق للبنان، وإذا كان الهدف اعادة الرغبة إلى كل هؤلاء الشباب، الذين يهاجرون البلاد مللاً أو قرفاً، ففي هذه الحالة حركة ثورية مسالمة باتت ملحة".

 

                                                                  ***

يجعل المخرج اللبناني جورج هاشم من صيف 1976 مسرحاً لحوادث باكورته الروائية الطويلة الاولى "رصاصة طايشة" (2010). يبدأ الفيلم في مدينة وينتهي في غابة حيث تجد الأقدار خواتيمها المأسوية. يحرص المخرج على اخفاء كل معالم النمطية التي التصقت بعشرات الأفلام اللبنانية التي تحدثت عن الحرب الأهلية، خالصاً الى إنتاج صادق واصيل ينبع من القلب. كاميراه هنا لا تساهم في فضح الحرب وتجاذباتها السياسية العبثية، مراقباً سلوك عائلة حيال العنف الذي يضرب طبقات المجتمع كافة، انطلاقاً من وجهة نظر هذه العائلة التي تكاد تكون صورة مصغرة عن واقع الحال في تلك الفترة الزمنية الأليمة من تاريخ البلاد. الفيلم يصور الانهيار الاخلاقي الكبير الذي بدأ يحصل في تلك الفترة في لبنان ولا يزال مستمراً الى الآن. لا يكمن الأهم في تصوير ما يصوره، بل في اختيار الزاوية التي يصور منها ما يصوره، أي من الداخل الى الداخل، وليس من الخارج الى الداخل.
نهى (نادين لبكي) وشخصيتها غير المستقرة، تحدث جملة تصدعات في صميم هذا الشريط. هذه الفتاة مقبلة على الزواج لكنها غير مقتنعة بخيارها، وتتمنى لو يُفك الارتباط مع خطيبها لأنها لا تكنّ له عواطف حقيقية، كآلاف الفتيات اللبنانيات والعربيات اللواتي يخضعن لسلطة العائلة والأخ الأكبر والأهل والأقارب في مجتمع ذكوري لا يحترم مشاعرهن. مشعّباً مواضيعه ومتطرقاً الى الكبير والصغير في المجتمع اللبناني، يتطرق الفيلم الى قضايا متداخلة قدر التداخل بين العام بالخاص، ومن هذه القضايا كيفية التعامل مع المرأة التي لا تصبح هنا الضحية الاولى للحرب فحسب، بل ايضاً يُمارس عليها الغطرسة والتعذيب النفسي وصولاً الى تحميلها كل تداعيات حروب الرجال، لتنتهي إما مقتولة برصاصة طائشة وإما مختلة نفسياً في احد المستشفيات...
كل ما يرينا اياه هاشم نعرفه تمام المعرفة، لكن كان من الضروري أن ينشر هذا الغسيل أمام العلن وعلى شاشة مستطيلة كي ندرك فظاعة الأمر ونشعر بها، أكثر وأكثر. وهذه واحدة من مهمات السينما: ان تضعنا أمام صورتنا المخجلة وغير المشرّفة. يتعامل مع مادته بحميمية بالغة التأثير في النفوس، ربما لأنه عاش تلك الاوضاع من قرب (يهدي الفيلم الى شقيقته)، وأيضاً لأنه لا ينصاع الى منطق الأفلام عن الحرب التي تغرق في تفاصيل سياسية بغية كشف النقاب عما حصل. لا يعود الفيلم الى المعالجة الايديولوجية في خصوص حرب تسربت من بين أناملنا، بل يهتم بالتحليل الاجتماعي والنفسي لعائلة وهي تواجه افظع ابتكار جاء به الانسان الى الأرض: الحرب.

 

                                                                    ***

 

"بيروت بالليل" (2011) لدانيال عربيد هو الأخر كان ضحية "السلم الأهلي" الهشّ. كان الفيلم مقرراً عرضه محلياً في التاسع عشر من كانون الثاني 2012، لكن قامعو الفيلم اختلط عليهم الواقع والمتخيل، فأرادوا تجنب حرب أهلية جديدة والمحافظة على الاستقرار الأمني من خلال الحلّ الأسهل: المنع. تقول عربيد: "نحن في لبنان تأقلمنا مع الموت. شاهدناه بأم عيوننا، حدّ انه بتنا نحبّ الخطر. في طفولتي، عندما كنتُ صغيرة، كان والدي يحمل معه مسدساً. كان ينام والمسدس تحت الفراش (...). ككل مسيحي يعيش في لبنان، لم يكن والدي يحبّ المسلمين كثيراً. في منطقتنا [قرنة شهوان]، لم نكن نرى مسلمين. كنتُ في الثامنة عشرة عندما رأيتُ أول مسلم في حياتي. كنتُ أقف في وسط الصالون وأصرخ في وجه والدي "تحيا فلسطين"، فكان يطاردني الى غرفتي ليضربني. قمة السخرية، اني في عام 2000، اتُهمت بأنني أحبّ اسرائيل فقط لأن فيلمي "ردم" شارك في مهرجان سينما المرأة في فرنسا وكان في المهرجان فيلم اسرائيلي".

في كل أفلامها، كانت عربيد تعطي الكلمة للفرد لا للجماعة التي ينتمي اليها. وتروي انها في احد العروض التمهيدية لـ"معارك حب" في نانت الفرنسية، ما ان انتهى الفيلم حتى وقف لبناني وراح يحتجّ على الفيلم، وقال للحضور: "هذا الفيلم لا يمثلنا كلبنانيين. العائلات اللبنانية ليست هكذا. عائلاتنا لا تتعارك. عندنا في لبنان لا يقبّلون بعضهم البعض في السيارات. عندنا في لبنان لا يقف الناس على الشرفة بالملابس الداخلية"... وكرّت سبحة من الـ"عندنا في لبنان". بالنسبة لعربيد فأن التهمة جاهزة: تشويه صورة لبنان. لم تجد ما تقوله سوى أن هذه أشياء عاشتها ولها الحقّ في ان تنقلها.

 

                                                                ***

الغالبية تعتبر أن من الترف الفكري، الاعتراض على حذف مشاهد من فيلم عن ماضٍ ربما لا يريدون العودة اليه. لكل واحد في بلد الانقسامات الحادة، تعاطٍ مختلف مع انتهاك الحريات: واحد لا يهتم بتاتاً، آخر يأبه قليلاً لكن المسألة عنده لا تعدو كونها حادثاً عرضياً يقرأ عنه في أحدى زوايا صحيفته المفضلة، وطرف ثالث يتماهى مع قرار الدولة الحريصة على أمن المواطنين والسلم الأهلي الذي لم يهدده يوماً الفن ولا الثقافة ولا الفكر، بقدر ما يهدده السياسيون أنفسهم، القائمون على قرارات المنع والاقصاء. في المقابل، هناك حقيقة واحدة واضحة للعيان: اللبنانيون لا يعرفون حقوقهم. مفهومهم للحرية يحتاج الى اعادة نظر. أما مَن يحذف خمس دقائق من فيلم، فهو الاذكى من بين الجميع، لأنه يعرف ان السينما فنّ الاختزال، وان دقيقة قد تعني أحياناً قرناً في حياة نساء ورجال. هكذا، فإن السيدة "رقابة" تلغي الذاكرة. بضربة مقص!
فبعد تعرّض مشاهد من فيلم "سمعان بالضيعة" لسيمون الهبر للحذف في عام 2009، كانت جمعية "بيروت دي سي" دعت الى لقاء تشاوري للسينمائيين والمسرحيين والكتّاب والصحافيين وكل العاملين في فنون العرض، للبحث في الاجراءات الممكن اتخاذها في سبيل المحافظة على حرية الرأي والتعبير في لبنان. لكن، الى اليوم، لم تثمر هذه المحاولات كافة. من قصة سمعان الهبر، الفلاح الذي يعيش حياة هادئة في قريته الصغيرة عين الحلزون في جبل لبنان، استوحى سيمون الهبر فيلماً وثائقياً طويلاً يعبق بلحظات وجدانية مؤثرة. على رغم أن ضيعته دُمّرت والناس هُجّروا ولم يعودوا حتى بعد عودة الأمن اليها، تحدى سمعان، وهو عمّ المخرج، كل أشكال الخوف والعزلة المفروضة عليه، ليسجل ما هو موقف نبيل من التعايش، وإن بشروط غير متكاملة، بين أهل منطقة واحدة، قد يكون ما يتفقون عليه أكثر مما يختلفون في شأنه. بغوصه في خصوصيات جيل عرف قبل الفردوس وبعده، اعاد الهبر انعاش الذاكرة الشفهية، متجولاً بين دهاليز العام والخاص بكاميراه الهادئة حيناً والقلقة حيناً آخر، لكن التي تعرف أين يجب أن تكون في مجمل الأحيان.

يقول الهبر: "كنت أحاول الانطلاق من العام الى الخاص. للفرد قيمة ويمثل مجتمعا، وليس العكس كما هو حاصل في بلادنا، اذ الكل يمشي في خط واحد. أردت أن أظهر مدى تأثير السياسة في سلوكياتهم. هناك شخصيات تحاول في لحظة ما اظهار فرديتها ثم تسارع الى قمعها للشروع في الخطاب العام. أردت ايضاً أن أري كيف أن البعض يريدون التكلم عن الحرب ولا يريدون في الحين نفسه. مثل هذا الرجل العجوز الذي يمضي في مديح الزمن الماضي، ثم عندما يشعر انه قد يكون مادة للسخرية، يسكت! من مشكلات هذا البلد التابوهات الكثيرة، والمواضيع الحساسة التي، وإن لم تكن ممنوعة قانوناً، فالناس يبتعدون عنها خوفاً من اثارة النعرات الطائفية. جراء هذا القمع المباشر وغير المباشر من السلطة والناس، صارت عندنا رقابة ذاتية، وهذا يقمع أيضاً الفرد واحاسيسه، ويحول دون اعترافه بمشاعره خشية أن تشكل خطراً على المجتمع".
الفيلم يظهر، وإن من طرف واحد، أن المصالحة هشة بين الطرف المسيحي والآخر الدرزي وانما قائمة على شعارات ولا تطبيق على الارض. على هذا، يرد الهبر قائلاً: "معالجة هذا الموضوع هي احد اهداف الفيلم. لا نستطيع ذكر كلمة مصالحة الاّ بعد أن نضعها بين مزدوجين. انها مصالحة سياسية موقتة. ما يبنى على أسس غير سليمة ينهار أو لا يبصر النور أصلاً. المصالحة لا يمكن الا أن تكون اجتماعية وليست سياسية. من هم الدروز والمسيحيون؟ ليسوا وليد جنبلاط وسمير جعجع. وعندما يتصالح هذان الاثنان لا يعني ان الطائفتين تصالحتا. وقد تختل العلاقة مجدداً عندما تختل علاقة الزعيمين لأي سبب من الاسباب. المصالحة تقتضي تربية الاولاد عليها منذ سن مبكرة. لكن المصالحة لم تتم ولن تحصل في القريب العاجل".

A+
A-
share
كانون الأول 2012
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
08 نيسان 2024 بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
08 نيسان 2024
بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
07 نيسان 2024 بقلم ربى الزهوري، صحافية
07 نيسان 2024
بقلم ربى الزهوري، صحافية
تحميل المزيد