«نفايات قوم عند قوم موارد»

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 15 5 دقائق للقراءة
«نفايات قوم عند قوم موارد»
© تيم السيوفي
أعوام مرّت على الحصار الذي تفرضه القوات النظامية السورية على منطقة الغوطة المتمردة في ريف دمشق جعلت الأمور فيها شديدة التعقيد وولّدت علامات استفهام لا تنتهي في رؤوس الجميع هناك، دون أن تلوح في الأفق بوادر إجابات حاسمة..
هذه التساؤلات ليست حول طبيعة الخصم الذي يحاصر المنطقة، ولا على شكل العلاقة معه في مستقبل أيام سوريا، ولا حول قسوة الغارات التي يشعر السكان أنها متواصلة منذ بدء التاريخ فحسب، بل أسئلة حول كيفية مواصلة الحياة في ظروف لم يكن في بال أحد أن يعيش فيها في هذا البلد.
في أواخر الصيف، عادة ما يبادر الناس في غوطة دمشق إلى الطبيعة والمساحات المفتوحة، باحثين عن حيّز للتنفّس وسط حقول القمح الذهبية.. هناك أخبرني أبو راتب عن قلقه الجديد، فيما كان يشرب قهوة تحضّر من الشعير لا من البنّ، ابتكرها متجر للقهوة في مدينة دوما المحاصرة بعدما وصل ثمن أوقية البن الواحدة إلى أكثر من ألف ليرة.
لا أعرف حقيقة مهنة أبو راتب الأصلية، التقيته لأول مرة بُعيد إخراج فصائل المعارضة قوات النظام من دوما، إذ كان يومذاك مسؤولاً عن إفراغ محطات الوقود في الغوطة بالتعاون مع المجلس المحلي، ونقلها إلى أماكن آمنة خوفاً من قصفها.
ثم بعد ذلك، جمعتنا الصدفة بين حقول القمح، وإذا به يعرج في مشيه، وهو الآن مشرف على قطعة أرض كبيرة نسبياً، في منطقة الشيفونية، يزرعها قمحاً، ولعلّه تدرّج في عدد من المهن قبل أن يصل إلى هذا.
حين أشرق عصر تكرير البلاستيك حوّل أبو راتب جزءًا من الأرض، بالاتفاق مع أصحابها الذين دخلوا شركاء، إلى معمل لتكرير البلاستيك.
وإذا كان اسم أول من قام بهذه العملية الكيمائية يظل غامضاً، فالبعض يعيد جذور الاكتشاف إلى غزة والفلسطينيين، إلا أن أبو راتب كان أول سكان الغوطة الذين استفادوا من هذه العملية لإنتاج الغاز وملء اسطوانات تعمل خمس ساعات وثمنها ألف ليرة، فيما ثمن أسطوانة الغاز «النظامية» يصل إلى أرقام فلكية تجاوز الأربعين ألف ليرة.. إن وجدت.
المعمل الذي بدأ ببرميلين بات الآن يضم فرّامة بلاستيك كبيرة، وستة براميل تعمل بالتناوب على مدار الساعة، وثمانية عمال، وسيارة بيك-آب.
يُدخل المعمل البلاستيك من مختلف الأحجام، ثم يخرج بالترتيب غازاً وبنزيناً وكازاً ومازوتاً وشحماً. ويخلط الشحم مع براد الخشب من مناشر الحطب وينشف على شكل أصابع ويباع باسم «الحطب الذكي» إذ أنه سريع الاشتعال، ويستمر طويلاً، ولا يترك الكثير من هباب الفحم.
ولأن أبا راتب قليلاً ما يحبّ الحديث في الأرقام، أخبرني عن قلقه مختصراً إياه بمعادلة ملخّصها أن أمامه خيارين أسهلهما صعب! فعليه إما تقليص وقت استفادته من التيار الكهربائي، أو تقليص استخدامه للمياه بشكل كبير بحيث لا يحتاج إلى ملء خزانه سوى مرة واحدة في الأسبوع. وكيف يفعل ذلك وهو يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، سواء للاستحمام أو الغسيل، أو لغسل حفاضات القماش لابنه محمود حديث الولادة.
وما زاد الطين بلّة أن الخزان الأكبر، ضمن خزاناته الثلاثة المتصلة، تصدع البارحة إثر رشقة الصواريخ التي أودت بحياة أربعة مواطنين في الجوار.
كان تفكير أبي راتب يقوده إلى تركيب خزانات بلاستيكية تضاعف قدرته على التخزين دون أن يضطر لملء المياه بوتيرة عالية.
قلت له: «لا، ليس بهذه السهولة».
فالمشكلة الحقيقية أن البلاستيك في تضاءل مستمر، لكنني لا أقول هذا أمام الناس، كي لا أثير ذعرهم. في حقيقة الأمر البلاستيك شارف على الانتهاء في الغوطة الشرقية، ومستودعات أكياس النايلون في مدينة عربين باعت آخر دفعة كبيرة قبل أسبوع، وأغلقت على الباقي احتياطاً، أو في انتظار غلاء ثمنه.
«تعرف»؟، بادرني أبو راتب وقد رشف الرشفة الأولى من ذاك المشروب الذي يسميه قهوة، «البارحة وأنا أنتظر دوري، لقطع اشتراك الموتور الخاص بتعبئة المياه، شاهدت الجنة في التلفاز».
وما هي هذه الجنّة يا أبا راتب؟
«الجنة أكوام مكوّمة من أكياس القمامة، جبالاً وجبالاً، وفي كل مكان، في كلّ شارع على كلّ زاوية، إنها بيروت يا صديقي، الجميع يرمي القمامة ولا أحد يجمعها، بات الناس يسيرون في الشوارع واضعين كمامات، والحكومة محتارة ماذا تفعل، أتصدق؟ بلد بأسره ينظر إلى الموضوع بارتباك، بينما عمّك أبو راتب يتابع التلفاز مثل علي بابا وهو يدخل المغارة».
وتابع أبو راتب وصف المشهد الذي اصابه بالذهول «استقبل المذيع من يبدو أنه أحد ذوي الشأن في مواضيع البيئة والدفاع عنها، ليخبرنا أن المشكلة ليست في المخلفات العضوية التي لا تشكل سوى ٣٠٪ من القمامة، فهي قابلة للتحلل، المصيبة تكمن كما قال في البلاستيك… تخيل معي في البلاستييييييك، أكثر من ٥٠٪ من أكوام النفايات هي بلاستيك، ثم أعادوا عرض اللقطات فكاد قلبي يتوقف، شعرت كما لو أنني أشاهد أحدهم وهو يرمي الخبز ثم يدوسه ويدوسه ثم يرمي المزيد من الخبز ثم يدوسه ويدوسه، كدت أبكي، أنا المسود من رأسي حتى أصابع قدمي من شحوار احتراق الدواليب، لو سلموني هذا البلد لأسبوع لأصلحت الأمور وخرجت غنياً في آن واحد».
ورشف من فنجاة قهوة شعيره وأضاف متحسّراً على حاله وقال «أستطيع حل مشكلات دول، وأزمتي لا أرى لها مخرجاً، يا للسخف»..
كان أبو راتب يندب حظّه، وأنا أرتشف معه ما يسمّيه قهوة وأكاد أموت من الضحك، وسط حقول القمح الذهبية تحت هدير الطائرات الحربية وأصوات المدافع البعيدة، وأرى فيه أبا راتب الذي تعودّت أن يقتلني من الضحك كلّ مرّة، مذ كنت أفتح له باب البيت كلما زارني وأعرفه حتى قبل أن أفتح الباب من رائحة النفط المكرّر من البلاستيك التي تفوح منه.
وكنت أناديه من وراء الباب: «أبو راتب طلعت ريحتك»، فيبدأ نوبة إضحاكي بقوله: «هاي ريحة المصاري يا ابني.. افتح الباب.. ما أدراك أنت، والله لا أمر أمام فتاة إلا التفتت إلي».
ويهمّ بالدخول قائلاً: «جايب قهوتي معي، كي لا أثقل عليك» ويبدأ بإخباري كيف حلّ هذه المشكلة وتلك المعضلة، وكلّها مسائل حياتيّة يوميّة أكثر تعقيداً من التدخل الروسي، أو الاتفاق النووي، أو الموقف التركي، وهو كغيره في الداخل المحاصر إذ ينكر الوقائع السياسية والاستراتيجية ولا يدرجها في أولوياته. لا يقوم بذلك عن عبث، ولا عن غباء أو جهل، بل كان يقول لي مشيراً إلى سقف بيتي: «كلّ محاضراتك عن مدى إشكالية التوقيع الإيراني على الملف النووي لن يبدل لك هذا المصباح الكهربائي المعطّل».

A+
A-
share
كانون الأول 2015
أحدث فيديو
تحميل المزيد