أنا الغريب

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 16 4 دقائق للقراءة
أنا الغريب
© رسم لنسرين سركيس
أنا الطفلة التي وقَفَت عند شارة السير تحملُ كيساً أكبر منها لتبيعَ علب المحارم للسيارات العابرة، تحت المطر. أنا التي أتفرّجُ على أطفال، في سنّي، يذهبون كل يوم بالباص إلى المدرسة وضحكاتهم وأغانيهم تملأ الصباح. أنا التي حين يتوقف الباص عند شارة السير يتفرّجون عليّ ويشعرون بالأسى تجاهي.
أنا التي أنظرُ جيداً في عيونهم وأعرفُ ماذا تقول. أنا التي أتفرّجُ على مراييلهم الملوّنة، والضفائر المربوطة بعناية، وبكلات الشعر الحلوة، وأتذكّر مريولي الذي أحرقته الحرب. أنا التي أحسدهم على قبعاتهم الصوفية، وستراتهم المنفوخة، وحجاب رأسي قد بلّلته العاصفة وأذبلت الرطوبة شعري الجميل المختبئ تحته.
أنا التي مثلهم ذهبت يوماً إلى المدرسة. أنا التي كنت أحبُ المعلمة اللطيفة، والصفّ الكبير، والطبقات الخشبية التي كنت أخربشُ عليها. أنا التي تفرّقَ أصدقائي عندما وقعت الحرب وسُوّيت المدرسة بالأرض. أنا التي أشتاقُ إليهم جميعاً. أنا التي أتمنى لو أنني أغمضُ عينيَّ في هذه اللحظة، وأصير مع هؤلاء الأطفال في باص المدرسة، الذي توقف عند شارة السير.
أنا التي قالت لي معلمة الفنون يوماً إنني سأصير رسامة أو مهندسة. أنا التي صدّقت المعلمة. أنا التي صدّقتها.
أنا التي أطرقُ على نوافذ السيارات أملاً ببيع المحارم فينهرني سائقوها من دون سبب. أنا التي أسمع شتائمهم بحقي وبحق من أحب طوال النهار وبعض الليل. أنا التي أكرهُ المطر الذي يبلّلني، والبرد الذي يقرصني، والشمس التي تحرقني، ودخان العوادم الذي يأكل صدري، وأنا التي أكره صوت زمامير السيارات من الآن وإلى الأبد.
أنا التي إذا بقيت في الشارع سيأتي الغول بعد قليل ليأكلني.
❊ ❊ ❊
أنا الأب الذي هربت بزوجتي وبناتي إلى هذا البلد. أنا الذي تركت منزلي ورزقي خوفاً عليهن من الوحوش الكاسرة. أنا الذي لم أجد لهن بيتاً دافئاً يعوّضهن البيت الذي غادرنه، ولا سقف يقيهن المطر والصقيع. أنا الذي وقف عاجزاً أمام مطالبهن التي كن يخجلن بأن يبحنَ بها إليّ، أنا الرجل بالشعر الأبيض.
أنا الذي تهتُ في الشوارع أبحث عن عمل، أي عمل، يساعدني على تأمين حاجاتهن وتلافي طلب المعونة من الغرباء.
أنا الذي صدّني الجميع لأن عمري لا يسمح لي بالصعب من العمل. أنا الذي وقفت حائراً وتائهاً في ما أفعل بكوم اللحم الجائع. أنا الذي اسودّت الدنيا في وجهي، ورفضتُ أن أمدّ يدي للناس وأبيتُ أن أطلب شيئاً، لأني لم أعرف ولن أعرف القيام بهذا الأمر.
أنا الذي وقفتُ على كرسيّ حديدي صدئ يهتز على أرجلٍ أربع. أنا الذي شددتُ الحبل السميك جيداً في السقف وعقدته على عنقي. أنا الذي أشعلتُ السيجارة التي نفثتُ مع دخانها كل الهمّ الذي كوّمته في قلبي. أنا الذي رميتُ عقابها على الأرض ورميتُ معها كل إيماني بالعدالة في هذه الدنيا.
أنا الذي أزحتُ الكرسيّ بقدمي، وبقيتُ معلّقاً وحدي في السقف.
❊ ❊ ❊
أنا الشاب الذي اضطررتُ إلى ترك الجامعة. أنا الذي بقي لي سنةً واحدةً لأتخرّج بشهادةٍ في طب الأسنان. أنا الذي خسرتُ معظم عائلتي في لحظةٍ متفجّرة واحدة. أنا الذي صرتُ أخاف من المبضع وأكره الدم لكثرة ما رأيت ولكثرة ما مسّني.
أنا الذي وصلتُ إلى هذا البلد من دون أوراق رسمية. أنا الذي أحببتُ ناس هذا البلد مع أنهم توجّسوا مني ومن لهجتي.
أنا الذي لم يرضوا أن يؤجّروني غرفةً يتيمة لأنني شاب وحيد. أنا الذي ظنوني دخيلاً، وعميلاً، وإرهابياً.
أنا الذي بحثتُ عن المهرّب، وأنا الذي قرّرتُ عن قناعةٍ أن أغامرَ بروحي كي أصل إلى أوروبا بحثاً عن حقوق إنسانية فقدتها في بلدي وفي بلدكم.
أنا الذي سألبسُ سترة النجاة وأنطلقُ من ساحل هذا البلد نحو بلاد جديدة. أنا الذي لم أتعلّم السباحة يوماً.
أنا الذي ابتلعني المتوسّط وحملتني أمواجه كي أدفنَ مع آخرين مثلي في مقبرة الغرباء.
❊ ❊ ❊
أنا الأم التي غطّت بطنها بحرام ٍمن الصوف وكنتُ أحسدُ الطفلَ الذي ينام في داخلي على الدفء الذي يتنعّم به. أنا التي كنت أنظر إلى أصابعي فأراها جافة وزرقاء من شدّة البرد. أنا التي ظلّوا يسألونني لماذا حملتِ وليس لجسدكِ القدرة على درّ الحليب؟ أنا التي سألوني لماذا تنجبينَ وأنتِ تعيشينَ في خيمة للاجئين؟
أنا التي أصابني العقم تسع سنوات وما انفكّ عني إلا في هذه الظروف. أنا التي ذعرتُ عندما تأخّر طمثي فظننتُ أنني فقدتُ القدرة على الإنجاب. أنا التي لم أصدّق خبر الحمل، وظننت أن الطبيب الذي زارنا في المخيم يواسيني ويرفع من معنوياتي. أنا التي رأيتُ دنيا أخرى بعد ذلك في عيني الجنين الذي كان يسبح في أحشائي.
أنا التي رغم الحرب، ورغم الألم، ورغم المعاناة أصابني بصيصُ أملٍ في قلبي حلمتُ به سنين. أنا التي تخيّلتُ ملابس أطفال صغيرة بالزهري والأزرق. أنا التي حلمتُ بعربة أجرّها، وطفل يضحك ويناديني بالكلمة الأحلى. أنا التي انتظرتُ هذه الكلمة طوال عقدٍ من الزمن، وصلّيتُ ونمتُ باكيةً كي تسمعني السماوات التي استجابت أخيراً لدعواتي وانتظاري.
أنا التي مات جنينها من الحزن قبل أن يولد. أنا التي لن أعرف الأمومة بعد اليوم.
(ملاحظة: أي تشابه بين أصحاب هذه القصص مع قصص وقعت فعلاً هو تشابه حقيقي ومقصود).
A+
A-
share
آذار 2016
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
08 نيسان 2024 بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
08 نيسان 2024
بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
07 نيسان 2024 بقلم ربى الزهوري، صحافية
07 نيسان 2024
بقلم ربى الزهوري، صحافية
تحميل المزيد