الـ «بَنْدورَة» بتضلّها «بَنْدورَة»

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 حزيران 16 5 دقائق للقراءة
كنت أعمل لدى مركز للدراسات والإحصاء ضمن مشروع متعلق بإحصاء عدد من السلع الغذائية، فأقوم بزيارة المتاجر والمحلات التجارية لسؤالهم عن بعض المنتجات التي يبيعونها
البداية كانت في منطقة بشري، «المنطقة الأكثر خطراً على فلسطيني»، كما قال لي أحد أصدقائي. ثم نصحني بعدم الذهاب إلى هناك كونها تعدّ من المناطق المحظورة على الفلسطينيين، فهم غير مرحب بهم لدى أهلها. كذلك تمنى عليّ المشرف على الإحصاء آنذاك، ضبط لهجتي الفلسطينية، ومحاولة التحدث بلكنة لبنانية، لكي لا يزعجني أحد أو أتعرض للإيذاء. لكن لسوء حظي، وبكل صدق، لم أكن أجيد تغيير لكنتي الفلسطينية.
في اليوم التالي انطلقت برفقة احد اصدقائي إلى بشري، لمباشرة العمل. صديقي أراد مرافقتي فقط للتمويه عن نفسه بعد عناء الإمتحانات، فكانت هذه زيارته الأولى إلى منطقة بشري، وفي الطريق بدأ يحدثني عن هواجسه التي لم أفهمها جيداً، ويستخدم جملاً فيها الكلمات التالية:
«في تار بيناتنا، بيكرهونا، الله يسترها معنا...»
بدأت جولتنا، وبدأت بتعبئة الإستمارت، كان صديقي في كل مرة يرفض النزول من السيارة. واستغربت كثيراً من رفضه التحرك خارج السيارة، لكن أكملت جولتي من دون الاكتراث إلى رغبة صديقي بالنزول او البقاء في السيارة. وكان التفاعل مع سكان المنطقة ممتعاً للغاية، فبعضهم كانوا يدعوننا لاحتساء القهوة، ولشدة تناولي لها في هذا اليوم شعرت أنني أخزنها للأسابيع القادمة، فيما صديقي لا يزال صامداً في السيارة رغم الحرّ الشديد.
في طريق عودتنا، طلبت منه النزول لشراء علبة سجائر، فرفض وأجابني بتوتر شديد: «لا أجيد النطق بلسانهم». إستغربت تعليقه، وقلت له: «يا أبله، إنهم عرب مثلك، يتحدثون اللغة العربية تماماً مثلك...» لكنه ظلّ رافضاً النزول، وبما أنني أجبرت على النزول لشراء حاجتي بنفسي، قررت ملء استمارة إضافية. فاشتريت علبة سجائر، ثم سألتها إن كان لديها مانع في المشاركة بالاحصاء فوافقت. وبعد عدة أسئلة في الإستمارة جاء سؤال عن منتجات متعلقة بـ «معجون رُب البندورة»، فقررت استخدام كلمة TOMATO PASTE تجنباً لاستخدام كلمة «بَنْدورَة» باللهجة الفلسطينية (اللفظ بالأحرف اللاتينية BAN DO RA) فأجابتني : هل تعني «رُب البَنْدورَة»؟. بلكنةٍ فلسطينيةٍ أصيلة... عندها أدركت أن في بشري الـ بَنْدورَة لا تزال بَنْدورَة فليس أمامها خيار آخر، وفلسطين وجهتها الدائمة، واليوم هي بصورة سيدة فلسطينية عجوز بَنَتْ عائلتها هناك...؟



خلّصوا خبزاتكم...
«ما معروف شو مصيرك»، واحدة من الجمل التي سمعتها مرة عندما عرض علي الزواج والسفر.
كان جوابي: «لا، طبعاً»، أنا أعرف مصيري جيداً. مصيري هو العودة إلى سوريا، نقطة. انتهى.
مع أنني أعتقد أن أهم مراحل نضوج شخصيتي حدثت هنا في لبنان، نزحت من حمص إلى طرابلس عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، لم أجد مدرسة تعلم المنهاج السوري بشكل قانوني فالتحقت بمدرسة غير مصدق عليها من وزارة التربية، لهذا كان عليّ السفر إلى سوريا لتقديم امتحان الباكالوريا. وبعد نجاحي في الشهادة الثانوية، كنت أفضل أن أتسجّل في كلية الإعلام، لكن لم يكن باستطاعتي تغطية نفقات هذا الاختصاص.
بعد محاولات بحث حثيثة عن فرصة عمل لتأمين مصاريف الجامعة، تمكنت من الحصول على فرصة عمل كمديرة صالة في أحد المحال التجارية. كانت تجربة جميلة لكنها لا تخلو من بعض المضايقات، فلا يمكنني نسيان ذلك اليوم حين طلب إلي مدير المحل أن أسعى إلى التكلم باللهجة اللبنانية كي لا أتعرض إلى أية مضايقات، أتذكر أنه كان مُحرَجاً جداً من طرحه هذه النقطة، ولم يتوقف عن تبرير موقفه والاعتذار حين عبرت له عن امتعاضي، إلّا أنه كان محقاً بعض الشيء، فكثيراً ما وصل إلى أسماعي، تمتمات وامتعاضات من بعض الزبائن مثل:
«قلة لبنانيين ليجيبوا سوريين؟!»
صراحة أنا ممتنة لهؤلاء الأشخاص بعض الشيء، لأنهم كانوا من المحفزين الأساسيين لي، كي أتخذ قرار المواجهة والاصرار على الانخراط في أي مجتمع أنوجد فيه. ربما المشكلة الأساس هي أن اللبنانيين ظنوا أن فترة الأزمة السورية لن تطول، فكانوا أكثر ترحيباً في البداية. لكن الأزمة فيَّ تتضخم وتشكل ضغطاً لجميع الأفراد.
هذا الاصرار على الانخراط والاندماج أتاح لي العديد من الفرص، كما أنه جعل مني إنساناً مبادراً، فمثلاً قمت مع مجموعة من الأصدقاء بتأسيس فريق أطلقنا عليه إسم «بصمات ملونة»، وأردنا القول من خلاله إننا نقبل ونؤمن بالتعاون. والواقع أن عملي واحتكاكي بمبادرات كهذه جعلاني مهتمةً جداً بالمواضيع والأمور الإجتماعية، وانعكسا تلقائياً على خياري الدراسي فاخترت الالتحاق بكلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وهناك الكارثة الأكبر، فإن لم يوحٍ مظهري الخارجي بأنني سورية، كما يتذرع البعض بجملة «ما مبَيَّن عليكي»، فإن لكنتي السورية هي التي كشفت أمري.
«أهلاً بكم» في الجامعة اللبنانية، هناك ما إن استقل سيارة الأجرة حتى تبدأ المغامرة اليومية، أشعر أحياناً بتأفف السائق، أفهم أن مزاجه اليوم ليس جيداً، وأن السوريين قد يكونون ذريعة لـ«فشّة خلقه» و«خلق غيره»، فعوضاً عن الراديو تبدأ اسطوانة، «السوريين أخدو الشغل كلو، والكهربا والمي، وخلّصوا لنا الخبز...».
أحياناً، أشعر بالخيبة والحزن، وأحياناً أخرى لا أكترث، لكن أمتع اللحظات هي تلك التي أجيب فيها بابتسامة عريضة: «هلق نحنا خلّصنا لكم الخبز؟» وأضحك، فليس أمامي خيار آخر، وسأستمر...


«قلبي من الحامض لاوي»
أن تقيم في لبنان، عليك أن تفهم أنه بلد الإشكاليات. لطالما أخطأ عدد كبير من الأشخاص في تحديد جنسيتي، فتارة أنا سعودي، وتارة أخرى سوري، خليجي، وقليلون جداً هم من أصابوا وعرفوا أنني عراقي.
الأسئلة هنا عميقة ثاقبة، خارقة بعض الشيء، فسؤال واحد يمكن أن يكلفك قائمة من الأحكام المسبقة لفترة طويلة، لذا أنصح بإجابات دقيقة واضحة ومقتضبة...
حالياً أسكن مع ثلاثة أشخاص، سوريين وعراقي، وأصدقاؤنا لطالما أطلقوا علينا لقب: «مريحين راسهم»، وهذا جيد بعض الشيء، كوننا لا نكترث للأسئلة الثاقبة والخارقة...
كثيراً ما نذهب لمشاهدة مباريات كرة قدم في أحد المقاهي الطرابلسية، حيث اعتدنا هناك، أنا وصديقي، الخضوع إلى التحقيقات من قبل النادل، الذي لطالما سألنا: «حضرتكم من وين؟»، خاصة بعد خوض معركة التسميات المرتبطة بـ «الليمون والبرتقال»، ففي اللهجة اللبنانية تطلق كلمة «ليمون» على «البرتقال»، لا أدري من أقنعهم بذلك، لكن هذا غير مقبول الليمون ليمون، و«البرتقال برتقال يا حبيبي يا عيني»، لن أتنازل، إنها اللغة.
«من وين الشباب؟»...
«من العراق»...
تبدأ الأحاديث ولا تنتهي، هنا يحاول المحاور أن يحدثني بكل ما لديه في الموضوع العراقي، فتارة يحدثني عن الرئيس السابق صدام حسين، وموضوع العراق في عهده، والتأسف على الوضع الحالي في العراق، حتى نصل بعدها إلى كاظم الساهر وأحدث أعماله.
هذه الأمور دفعتني إلى دراسة الإعلام هنا في لبنان، لأحاول إعادة المشهد العراقي إلى الواجهة، لأنني بصراحة، وكما يقولون في لبنان:
«قلبي من الحامض لاوي»، و أقصد بـ«الحامض» هنا «الليمون»...

A+
A-
share
حزيران 2016
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
08 نيسان 2024 بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
08 نيسان 2024
بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
07 نيسان 2024 بقلم ربى الزهوري، صحافية
07 نيسان 2024
بقلم ربى الزهوري، صحافية
تحميل المزيد