خارج الفقاعة

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 13 كانون الأول 19 6 دقائق للقراءة
خارج الفقاعة
© غلاف القصة المصورة «أم ياسر وكوب الحليب» 2020 المأخوذة من كتاب حكايات ستي (2018، دار الفرات)
كانت المرّة الأولى التي أدخل فيها الى مدرسة لبنانية، فأنا منذ نعومة أظافري لم أدرس إلا في مدارس فلسطينية، بدءًا من زميلاتي وزملائي التلامذة الى أساتذتي والمدير، حتّى أنّ بائعة الدكان في ملعب المدرسة كانت فلسطينية. كلّ من وما حولي كان فلسطينياً: اللهجة المستخدمة من قبل الجميع، العَلم المرسوم على احد الجدران، المقالات الملصقة على مجلّة الحائط، الأناشيد والرقصات التي نتدرب عليها لاحتفالات المدرسة، حتّى أنّ الرسائل والتعليقات الطفوليّة المكتوبة بأقلام ملوّنة على أبواب المراحيض كانت فلسطينية.
كلّ هذا تغيّر؛ فمنذ اللحظة الأولى التي وطأت بها قدماي الى داخل «مدرسة عمر فرّوخ الرسمية»، بدا كلّ شيء مختلفاً. علمت حينها أنني بتّ خارج منطقة الراحة الخاصّة بي (Comfort zone) حتّى بدت لي وكأنّها فقاعة تطاير منها الغاز، فاختفت بومضة عين. استقبلتني مساعدة المديرة بنظرة رمقتني بها من باب الإدارة وصولاً الى حافة الباطون التي كنت أجلس عليها لوحدي. اقتربت مني مشيرةً الى الحطّة الفلسطينية (الكوفية) المنسدلة من كتفيّ وصولاً حتى خصري قائلة: «شو هاي؟» كانت تقصد بأنني أخالف قوانين المدرسة المتعلّقة بمنع إظهار أي رموز سياسيّة داخل حرم المدرسة، لكنّني اعتقدت وقتها بأنّها لا تعرف قطعة القماش المنقوشة بالأبيض والأسود. أذكر لسذاجتي أنني أخذت أشرح لها بمفرداتي الخاصّة عن استعمالات الحطة ورمزيّتها للشعب الفلسطيني، فما كان منها إلّا أن أمرتني بإزالتها وعدم احضارها مرّة ثانية إلى هنا. غضبت كثيراً وانا التي كنت معتزّة بارتدائها في يومي الأول لأنّها كانت هديّة خيطت بيد صديقة جدتي «سودة».
استلّيت الحطّة من طرفها المنسدل يساراً وطويتها برفق ثم أقفلت عليها حقيبة المدرسة. كان قلبي يخفق باضطراب شديد وأحسست بأن شيئاً ما بداخلي قد كُسر. صوت الجرس كان مختلفاً، ومشيت باتجاه الطلاب الذين اصطفوا بثوانٍ في الباحة. ساعدتني احدى المعلّمات في ايجاد صفي وأوقفتني في المقدّمة. حيّتنا المديرة مرحبّة بالسنة الدراسية الجديدة ثم علت الموسيقى في أرجاء المكان وارتفع صوت التلامذة جميعهم وهم يرددون: «كلّنا للوطن للعلى للعلم، ملء عين الزمن سيفنا والقلم». كنت أعلم أنّ هذا هو النشيد الوطني اللبناني، كما كنت أعرف كلماته من درس مادة التربية الوطنية. فبالرغم من أنّني درست في مدارس وكالة الأونروا للفلسطينيين، إلّا أنّ المنهاج كان بالمجمل لبنانياً. لكنّ وطني ليس لبنان! لماذا يرمقني الطلّاب ببقائي صامتة وهم يقفون للنشيد؟ أحسست وكأنّ جنسيّتي الأصليّة وثقافة بلدي تُسلب منّي في هذا المكان الضيّق. كان ضغطاً اجتماعياً يمارس عليّ من قبل المراهقين الآخرين، وإن لم يكن مقصوداً. تلفّت حولي واذ بشفاهي تتحرّك كما شفاه الجميع وتغنّي للعلم اللبناني.
لم ينادني أحد في الصف باسمي، كنت «التلميذة الجديدة» للطلّاب كما للأساتذة. هكذا كانوا يتعرّفون عليّ ويخاطبونني. لم أستطع الإندماج في الصف يومها لأني انشغلت في معرفة السبب الذي يتمّ فيه معاملتي بهذا الشكل. هل يعود ذلك لاختلاف جنسيّتي وثقافتي؟ لكن الاختلاف ليس مشكلة بل حقّ، حسبما تعلّمت مع أختي في واحدة من حلقات التوعية التي حضرناها في إحدى الجمعيات غير الحكومية في المخيّم حول حقوق الطفل. حقّي في الإسم والجنسيّة والهوية يجب ان يكون مصانًا وفقًا للمادة الثامنة من اتفاقية حقوق الطفل، والحطّة/الكوفية الفلسطينية هي جزء من هويّتي. بالرغم من ثقتي بما تعلّمته إلّا أنّ ما حدث معي جعلني غاضبة. عدت يومها الى مخيم برج البراجنة مستاءة. فكّرت بترك المدرسة لكن ذلك كان مستحيلاً، فأنا التي طلبت الانتقال الى مدرسة جديدة. رميت حقيبتي على باب الدار بعنف. كانت جدّتي «سودة» جالسة وسط الدار باتجاه البوابة المفتوحة وهي تتفقد قطع الحرّ الأحمر المصطفّ فوق شرشف على الأرض. رفعت رأسها قليلاً ونادت عليّ: «يا مقصوفة ليش كبيتي الشنطة هيك؟ خير إن شاءالله؟» أعدت لها الحطّة وأخبرتها أنني لن أحتاجها بعد اليوم. بصوتها المعتاد صرخت في وجهي لاعتقادها بأنّها لا تعني لي شيئاً. أوضحت لها الأمر وأخبرتها بما حدث في المدرسة وكيف نهرتني مساعدة المديرة وجعلتني أخفي الحطّة، وأضفت: «حتّى إنهن بدهن ياني أصير لبنانية، ما حطّوا النشيد الفلسطيني، بسّ اللبناني». ضحكت سودة على انفعالي أمامها وطلبت منّي أن اجلب لها مطحنة الحرّ اليدويّة من تحت الدرج. أخذتها من يدي ووضعت إناءً أسفل مصفاة المطحنة ثم أخذت تزجّ بقطع الحرّ الناشفة في فوَّهتها. «إسّا بدّي أحكيلك كيف إنت اللّي غلطتي اليوم» قالت ببرود بينما أنا ذهلت إثر سماعي لذلك، ولأنّها كانت تعرفني جيداً - الحفيدة الوحيدة التي نالت شرف قصّة نوم منها منذ سنوات - أضافت: «اسكتي لأخلّص».
علّمتني سودة أنّ ما حدث هو أمر طبيعي ومعتاد، فلمَ عساهم يشغلون النشيد الفلسطيني في مدرسة رسميّة لبنانية؟ هل في مدارس الأونروا نردّد كلمات النشيد اللبناني عند كلّ صباح؟ ثمّ إنّ مشاركتي لهم لا تدلّ على انتزاع هويّتي منّي او جعلي لبنانية، فحسب قولها «إنتي فلسطينية أبّاً عن جدّ، ومن كويكات، قرية ستِّك وسيدِك. هادا الشي ما حدا بشلحك إياه لأنه بدمّك. كلّ واحد بهالدنيا الواسعة يا ستّي عنده بلد وهوية وعادات بتشبهه، لازم يضلّ محافظ عليها». وأوضحت أنّنا نعيش في لبنان منذ النكبة، ومن الصحيح أن تختلط الثقافتان فذلك يغني كليهما، مستشهدةً بمحلّ جدّي الكائن خارج المخيّم، والذي يتعامل فيه مع لبنانيين وزبائن من جنسيّات مختلفة. يومها؛ لم تنسَ جدّتي –بالطبع- التطرّق لأهل أمّي الذين حصلوا على الجنسيّة اللبنانية –لظروف تجنيسٍ سياسية- لكنّهم ما زالوا يسكنون في المخيّم بين أهلهم. كان كلام «سودة» يأخذني لإدراك أنّ غضبي ممّا حصل في المدرسة كان سببه عدم وعيي لهذه الأمور. خجلت من تصرّفي غير اللائق أمامها، لكنّها تنبّهت إلى احمرار خدايّ فأنهت كلامها: «اسمك تهاني نصّار، ما حدا بينادي عليكي غير باسمك. وكمان شغلة قبل ما تروحي تبدلي أواعيكي، الحطّة مش سياسة، قوليلها للمعلّمة انو سيدي كان يلبسها على راسه هو وعم يشتغل بأرض كويكات».
يومها تعلّمت الكثير. لطالما كانت «سودة» معلّمة جيدة بالرغم من شخصيّتها الصارمة وطبعها الحادّ الذي لم يحتملهما أكثريّة افراد العائلة ولربّما الجيران أيضاً. أسأل نفسي اليوم هل كنت سأصبح ما أنا عليه الآن لولا حكمتها والمخيّم الذي شكّل وعيي بهويّتي الوطنيّة؟ لم يكن سهلاً على أجدادي الذين عبروا الحدود الفلسطينية اللبنانية سيراً على الأقدام عام 1948 أن يسعوا لخلق مساحة آمنة لأطفالهم. لربما المخيّم-لظروف عدّة- ليس بالمكان الأمثل لطفل، لكنّه بالتأكيد كان بالنسبة لي ولجيلي مكاناً مَدَّنا بحقوقنا البديهية كأطفال بدءًا من كونه موضعاً آمنأً نشأنا على أرضه، وبين أزقّته الضّيقة وحاراته البسيطة لعبنا «الزحفة» وركضنا خلف عربة بائع الكعك الذي نسي اعطاءنا حفّة زعتر ملفوفة بورق رقيق. في المخيّم كانت بوّابات الدار تبقى مفتوحة منذ الصباح، يرى عابر الطريق سكانها مجتمعين على حديث قهوة صباحيّة أو شاي يتمتعون به بعد الظهر. جدران المخيّم مليئة بالرسمات والأقوال التي ساهمت بتعزيز هويّتنا، من خريطة فلسطين الكاملة لأسماء قرى وبلدات الجليل الأعلى المهجّرة، إلى صورة حنظلة الذي كان صديقنا حين كنّا بعمره وتحمّل غلاظتنا يوم ذابت أقلام تلوين الشمع لشدّة ما حففناها بالحائط بهدف تغيير لون ثيابه. باختصار، هو المكان الذي أعطانا حقّنا كأطفال بممارسة هويّتنا الفلسطينية من حيث اللّهجة والعادات والتقاليد، كما أنّه علّمنا منذ الصغر بأننا فلسطينيو الجنسيّة في بيئة لبنانية أطفالها يحملون جنسيّة بلدهم، لأنّ ذلك هو حقّهم، حقّنا، وحقّ أيّ طفل في العالم.
A+
A-
share
كانون الأول 2019
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
08 نيسان 2024 بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
08 نيسان 2024
بقلم رهف أبو حسّان، صحافية
07 نيسان 2024 بقلم ربى الزهوري، صحافية
07 نيسان 2024
بقلم ربى الزهوري، صحافية
تحميل المزيد