"جميلة" هي فيديوهات العيش المشترك والتعايش بين اللبنانيين. العلم اللبناني بين مجموعة من الشبان والشابات، يضحكون معاً، ويتبادلون الأحاديث، بمختلف انتماءاتهم الحزبية والدينية والأيديولوجية… تعيدنا هذه الفيديوهات، بشكل أو بآخر، إلى ما تخبرنا ايّاه جداتنا عن أصدقائها المفضلين من طوائف وأحزاب أخرى، "اخترنا كسر وتجاوز أي اختلاف بيننا".
من الطبيعي أن يشعر قراء الفقرة الأولى بغرابتها، والطبيعي أكثر تصنيف المقدمة بسطور مليئة بالبُعد عن الواقع. هي بالفعل كذلك، سخيفة وبعيدة عن الواقع، تماماً كما الفيديوهات التي تحاول اقناعنا إلى اليوم بأن لبنان بلد العيش المشترك و"المحبة"، وتخطي الاختلاف بين مختلف مكوناته.
بعيداً عن التعميم ومبدأ الشمولية البشعة، تؤكد الأحداث المتتالية، وبصورة شبه يومية، مدى الانقسام بين اللبنانيين وما يتبعه من تصاعد لخطاب الكراهية. تشكل منصات التواصل الاجتماعي وتحديداً "إكس" (تويتر سابقاً) مصغراً عن الواقع اليوم، إذ لا تخلو مناقشة من التمييز والتنميط والتنمر وغيرها من أشكال الكراهية.
تعريف "الكراهية"... وتنامي الظاهرة
حسب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يشمل خطاب الكراهية جميع أشكال التعبير التي تنشر أو تشجع أو تحرض أو تبرر الكراهية العنصرية أو كره الأجانب أو غير ذلك من أشكال الكراهية المبنية على التعصب وذلك بما يشمل: التعصب المتجسد في القومية العدوانية والتعصب العرقي والتمييز ضد الأقليات والمهاجرين والأفراد من أصول مهاجرة.
"أبرز المحطات التاريخية التي شهدت تنامياً لخطاب الكراهية بين اللبنانيين هي اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وانقسام البلد بين 8 و14 آذار وأحداث 7 أيار وتدخل حزب الله في الحرب السورية"، يقول مكرم رباح، أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت AUB. يحمّل رباح المسؤولية الأكبر للنظام السياسي القائم على الطائفية، والذي يبرّر خطاب الكراهية والانقسام، إلى جانب الأحزاب اللبنانية التي خلقت مناخاً للانقسام.
شهدت الفترة الأخيرة أحداثاً أساسية، انقسم معها اللبنانيون معها بشكل وصفته دراسة لمؤسسة سمير قصير "سكايز"بـ"المميت". من بين هذه الأحداث، التحريض على اللاجئين/ات السوريين/ات وأفراد مجتمع الميم عين، عدا عن تنامي الخطاب المعادي للنساء، وهو ما ترجم بـ13 جريمة قتل نساء في لبنان منذ بداية 2023، حسب جمعية "كفى". من الأحداث البارزة التي قسمت الشارع اللبناني، مصير التحقيق بتفجير الرابع من آب، و"الميني حرب أهلية" التي شهدتها مستديرة الطيونة في الربع الأخير من العام 2021.
اللافت، أن حملات الكراهية تتعدى المستوى الوطني لتهدد المجتمعات المحلية. تجلى الأمر في الأحداث التي شهدتها بلدة مشغرة (البقاع الغربي) في نيسان/أبريل الماضي. حينها، وعلى أثر إشكال بين عائلة آل شرف وآل عمار، عاشت البلدة أبهى أشكال الكراهية وما رافقها من تهديد بمزيد من العنف والتهديد. لا بد من الإشارة إلى أن لكل منطقة من مناطق لبنان "حساسياتها" الخاصة، وما يرافقها من اللعب على هذا الوتر خلال الأزمات.
تعتبر الصحافية ومدربة التربية الإعلامية والمعلوماتية وخطاب الكراهية ربى أبو عمّو أن خطاب الكراهية في لبنان يشهد تصاعداً كبيراً، للأسباب التالية: مصالح المؤسسات الإعلامية، وانقسامات اللبنانيين والخوف من الآخر الذي يتغذى من المحتوى الإعلامي، وغياب ثقافة الاستماع إلى الرأي الآخر ومناقشة الفكر بدل الغريزة، والتفلت وغياب القوانين، إلى جانب إلهاء الشعب عن القضايا الأساسية.
الإعلام والتحريض على الكراهية
لعب الإعلام اللبناني، المرئي والمسموع والمكتوب، دوراً أساسياً في تنامي خطاب الكراهية. تحكم هذا الإعلام سياسات تحريرية قائمة على الانقسام، إذ لكل منها جهة (أو جهات) تمويلية وأهداف وأسس مختلفة. تشكل مقدمات نشرات الأخبار، ومانشيت الصحف، نموذجاً عن واقع هذه الوسائل والآلية التي تعمل من خلالها. شغلت هذه الوسائل حيّزاً مهماً من النقاشات، وواجهت اتهامات بالتحريض ونشر خطاب الكراهية والعمل على تقسيم اللبنانيين، وتحديداً في الفترات الحساسة كالانتخابات النيابية.
إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية، فاقم تفلت السوق الإعلامي من ظاهرة تصاعد خطاب الكراهية في وسائل الإعلام، وتحديداً من المنصات غير المسجلة رسمياً والتي تفتقد الحد الأدنى من أخلاقيات ممارسة المهنة. كذلك، لا يقل واقع منصات التواصل الاجتماعي خطورة، وتحديداً الجيوش الإلكترونية، التي تديرها فئات محددة بهدف مهاجمة أفراد وجماعات بمختلف أشكال خطاب الكراهية.
ترى أبو عمو، أن "وسائل الإعلام موجهة لديها أجندات سياسية وحزبية وتجارية، ما يعني أن نشر هذا الخطاب مفيد لها ولاستمراريتها من خلال اللعب على الغرائز". بالتالي، وحسب الصحافية والمدربة، وسائل الإعلام شريك أساسي بنشر خطاب الكراهية، مع الإشارة إلى أن الرأي العام لا يزال ينظر إليها كمصدر مسؤول وموثوق.
حسب دراسة أعدتها مؤسسة سمير قصير "سكايز"، تحت عنوان "730 يوماً من الكراهية"، يتبيّن أنّ خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين سجل النسبة الأعلى في التقارير التلفزيونية ضد الفئات المهمشة. فمن أصل 12 تقريراً، سجلّ 6 منها ضد اللاجئين، مما يمثّل 50% من الإجمالي. على "تويتر"،شكّلت النساء الشريحة الأكثر استهدافاً في المجتمع من بين سائر الأقلّيات التي تمّ تحديدها. في المقابل، أظهرت بيانات "فيسبوك" أن مجتمع الميم عين يحتل الصدارة من حيث نسبة التعليقات الإشكالية.
معضلة تعدد المجتمعات… ومكافحة الخطاب
يشير أستاذ القانون الجامعي والناشط السياسي علي مراد إلى أنه "قد تزداد الأزمات في مجتمعات متعددة كالمجتمع اللبناني، وتحديدا عند الشعور بالمظلوميات المتقابلة تجاه أعضاء الجماعة الواحدة وتجاه الآخرين، ولبنان لم يعرف المصالحة السياسية بعد الحرب الأهلية (1975 - 1990)". يلفت مراد إلى أن الصراعات تتقاطع بين اللبنانيين باستسهال اتهام الآخرين كاللاجئين السوريين والفلسطينيين وتحميلهم مسؤولية قضايا عديدة.
رغم سوداوية المشهد، تبرز العديد من التدريبات التي تهدف إلى مكافحة خطاب الكراهية والتوعية على مخاطره. تعمد العديد من الجمعيات والمنظمات إلى تنظيم تدريبات، غالباً ما تستهدف صناع القرار وعاملين في مجال الصحافة والإعلام، لتدريبهم على مكافحة أشكال الكراهية، إلى جانب خلق تفكير نقدي قادر على التمييز بين مختلف المواد الإعلامية والأهداف الكامنة خلفها.
هنا، تؤكد أبو عمو بأن "عمل الشبان والشابات بمهنية ومسؤولية سيكافح أشكال خطاب الكراهية بشكل تلقائي". تصف التدريبات التي تقدّمها بالمنبّه للصحافيين الشباب، ولا سيما المتحمسين والمندفعين منهم، كي يطوروا مهاراتهم النقدية". وهذا ما يعلمهم على ضبط الغرائز والمشاعر، ويجنبهم الوقوع بفخ الكراهية من خلال عناوين "تجييشية" وغيره، إذ يدركوا مدى خطورة وتأثيرات الأمر.
بالتوازي، يرى أستاذ التاريخ في "الأميركية" مكرم رباح، ومن خلال تواجده الدائم بين الطلاب، أن "خطاب الكراهية ليس موجوداً بكثرة لدى الجيل الجديد، ولا سيما أننا نعيش تجربة ما بعد انتفاضة 17 تشرين". في الوقت نفسه، يلفت إلى أن رهان هذه الطبقة السياسية يؤدي إلى تراجع طبقة من الشباب يراهنون على بلد جديد. ويختم رباح بالإشارة إلى أنه ليس هناك من إمكانية لمحاربة خطاب الكراهية والتفرقة من دون التخطيط لما بعد هذه الفترة.
رغم الحملات العنفية التي يشهدها المجتمع المحلّي، يزداد الخطاب المحلي المندد بخطاب الكراهية في لبنان، وتحديداً من الخبراء والصحافيين والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان. في المقابل، تزداد سلبية دور الوسائل الإعلامية في مكافحة هذا الخطاب، والتي يعمد عدداً كبيراً منها إلى استضافة شخصيات تعرف بمواقفها العنفية لخلق جدل وجذب المزيد من المشاهدات. لا يمكن الرهان سوى على الفئات الشابة العاملة في المجال، وإقرار اللبنانيين بسقوط معادلة العيش المشترك… والتي لا بد من العمل بجدية على إعادة بناء الحد الأدنى منها.