هذا نص تأسيسي. قصوره أو فشله في احلال سلام، يتجاوز بروده، إلى استقرار دولتي، لا يعطل هذا الفهم. بل، على العكس من ذلك، يدخل في صلبه. ومن جانب آخر غير السلم، أسست مرحلة الطائف السياسية انزاعات مشرعة ولو في طرق ملتوية. إذ أن دخول الأهل وجماعاته في صلب الدولة كان له أن خفف من دموية صراعتهم في حين أنه، في المقابل، ذهب بعيداً في تعزيز "تغولهم" السياسي، بما هي تحويل هياكل الدولة، ومؤسساتها، إلى محاصصات.
الطائف، إذاً، نص وسياقه. لكنه أيضاً وضع هو ما عليه نحن الآن. شرح ذلك إذ يبدو محالاً، لغير رائيه، فإنه لنا، نحن من نعيش يومياته، ليس معقولاً بالضرورة، بقدر ما هو معاش. أقرب إلى التأقلم من الاستيعاب. لذا في تناوله، مرة أخرى، سعي إلى جعله، بهذا القدر أو ذاك، مفهوماً. لا يُمل من ذلك لأننا في الغالب لا نحصّل من حديثنا فيه ما يستحق. لكن أيضاً لصاحب الحديث أثره في الذهاب أبعد في وعي النص ومآلاته. من هذا الباب قد يكون اختيار رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني موفقاً. إذ أن الرجل، عدا مشاركته الأسياسية في صياغته، يوم كان رئيساً لمجلس النواب الذي وقع الاتفاق في زمنه، فإنه أيضاً خارج عن سلوك اجتماع ما بعد الطائف، نائباً ثم مستقيلاً.
هذا الحوار إطلالة على الطائف في لحظة طرحه على الطاولة. أو ما قد يبدو حقاً أنه أفول لامتناعه على النقاش. إذ صار الحديث عن صيغ بديلة، وإن غير محددة بدقائقها، شائعاً ويومياً في الخطاب السياسي. لكنه أيضاً يحاول أن ينظر إلى الطائف من جهة سعيه إلى دعم تجاوز اللبنانيين لاحترابهم الأهلي. كان هذا الشق قد بدا قاصراً دائماً في نص لم يقل أحد يوماً عنه أنه كامل القدرة. وإذ يصر الحسيني على الطائف فإنه ينطلق من غياب بديل فعلي، فضلاً عن عدم تطبيقه، وليس من منطلق أزليته وصلاحيته الدائمة.
ربما، أخيراً، قد يكون مريحاً النظر إلى الطائف أنه راع نصي لمرحلة، تسير - أو يوحى بذلك على الأقل- إلى خواتيهما. وليس نصاً تعاقدياً قابلاً للتطبيق. على أن سبب غياب القابلية مما يمكن تعليله وفي هذا الحوار يطرح دولة الرئيس السابق جزء منه. لكن المريح في الأمر أن النظر إليه من هذه الزاوية يخفف من عبء التفكير بتطبيقه من أجل تجاوزه. إذ يبدو في الغالب أن نصوصاً في هذا الاجتماع المعقد أقرب استعمالها إلى تقطيع الوقت وتسييله. ليس أكثر.
1- يشار دائماً إلى نقص في اتفاق الطائف. هل يمكن الحديث حقاً عن نقص فيه إذا ما قورن بما سبقه؟
النقص بموضوع اتفاق الطائف أنه لم يقرأ بل تلوَ. والتلاوة لا تعطي المعنى الحقيقي. اتفاق الطائف له جزئين. الجزء الأول: الميثاق الوطني، وهو ميثاق غير مكتوب مبني على لائين. لا للحماية الاجنبية. ولا للاندماج مع سوريا. خدم هذا الميثاق بغموضه فترة من الزمن ولكنه أبقى على الثغرات الاساسية في تكوين الوطن. الثغرة الأولى أن الهوية الوطنية غير واضحة. فهل لبنان جزء من أهله أو كل أهله؟ هل لبنان على جزء من أرضه أو على كامل أرضه؟ هل لبنان وطن مرحلي أو وطن نهائي؟ هذه الأسئلة حول الهوية الوطنية لم يكن لها اجابة. ولم يكن هناك كذلك اجابة حول الانتماء العربي لذا قيل أن لبنان ذو وجه عربي.
وأيضاً ما هو نظام الحكم: رئاسي، ملكي، امارة؟ كان الأمر ملتبساً. أتت مقدمة الميثاقية في الطائف لتؤكد أن لبنان وطن سيد حر مستقل نهائي لجميع ابنائه. وبالتالي عربي الهوية والانتماء ونظام الحكم فيه جمهوري ديمقراطي برلماني يقوم على احترام الحريات العامة والمساواة بين اللبنانيين والمناصفة في الحكم. وموضوع الانماء المتوازن لان المشكلة كانت في الفوراق بين اللبنانيين كمجموعات ومناطق. جاء النظام ليحد من هذا من خلال انماء متوازن بين المناطق ثقافياً واجتماعيا. ذلك أنه ركن أساسي من اركان الاستقرار. وهذا الأمر يرتبط بالولاء الوطني.
2- هل عمل الطائف على معالجة ذاكرة اللبنانيين المتكونة في فترة الاحتراب الأهلي؟
حكماً. ذلك أن الطائف أعطى حلولاً لكل المشكلات التي كانت مسبب النزاع بين اللبنانيين. لكن العبرة في التطبيق. إذ عدا المقدمة/ الميثاق في جزئه الثاني اهتم الطائف بتقديم خطة عمل لاقامة دولة مدنية تعترف بحقوق المواطن والأفراد والجماعات على اختلافها. واتفاق الطائف عدل الدستور لكن المبادئ الدستورية التي وضعت تحتاج إلى قوانين تطبيقية تفصيلية. مثلا وضع مواصفات السلطة التشريعية لكنه لم يحدد طبيعة قانون الانتخاب الذي يجسد هذا النص الدستوري. لا زلنا إزاء قوانين تمكن المتسلطين من تعيين النواب من دون إنتخاب فعلي. أيضاً رئاسة الجمهورية، باعتبارها رئاسة لجميع السلطات بحاجة إلى قانون يحدد علاقتها ببقية السلطات وآلية عملها.
3- هل هناك سبب مباشر لهذا الأمر؟
هناك رغبة بالحفاظ على الفوضى وحكم الميليشيات. حتى شهر أيلول من العام 1991 كان القول المعلن هو تنفيذ الطائف تباعاً. أنتهت الحرب وجمع بعض سلاح الميليشيات وبرزت خطوة جدية بإرسال الجيش إلى الجنوب. وكانت الدول الكبرى والدول العربية، ومن ضمنها سوريا، ملتزمين بالاتفاقات الدولية. لكن حين حصل الاجتياح العراقي للكويت في شهر آب من العام 1990، وردة الفعل الدولية على العراق في شباط 1991، اختلف الأمر. وظهرت النتائج في شهر أيلول. اذ توهمت الادارة الاميركية أنها قادرة على حل أزمة المنطقة بما فيها أزمة لبنان. كان ذلك خلافاً لإتفاق الطائف المرتكز، في حكمته، أن حل أزمة لبنان هي باب لحل أزمة المنطقة. تبعاً لذلك تحول الدور السوري من حل هذه الازمة إلى اشتراك في ادارة الأزمة. ومنذ ذاك التاريخ حتى اليوم توقف تطبيق اتفاق الطائف بشكل كلي.
4- هل أدى ذلك إلى أن يكون "الطائف" إتفاق مصالحة فوقي بين القيادات من دون المواطنين؟
لا. لكن عودة حكم الميليشيات سببه ما سبق وذكرته. نحن الآن تحت ظل حكم الميليشيات. كما أننا نعيش في خلل هائل في الوحدة الوطنية. مثلاً هل للشعب حق انتخاب النواب في لبنان؟ هذا مفقود حتى الآن في ظل النظام الانتخابي الأكثري. والاستقرار السياسي يبدأ بقانون انتخابي. والاستقرار ينتج نمواً اقتصادياً. هذا عدا فقدان الأمن والسلطة القضائية المستقلة. لقد ركز الطائف على هذه الأمور. لذا فنحن في حالة عدم اقرار القوانين التطبيقية هذه نعيش في اللانظام.
5- هل يعني هذا أن الحرب الاهلية مستمرة؟
طبعاً. اذ انتقلت الحواجز من الشوارع إلى الادارات والوزارات. وهذا يرجع إلى مرحلة "الاتفاق الثلاثي" الذي جرى في سوريا عام 1985. أي مشاركة الميليشيات في السلطة. هكذا، كل واحد يحكم منطقته يشارك في حكم الآخرين. لا بد من القول أن لا علاقة للطائف بكل ما يجري اليوم.
6- ألا يمكن اعتبار قانون العفو جزء مكملاً من اتفاق الطائف؟
لقد كان صدور هذا القانون بمثابة خط يلغي ما جرى قبله. على أن لا يتكرر ما جرى. كان هذا شرط القانون. لكنهم لم يشتغلوا على أساسه.
7- ما أهمية هذا القانون وخاصة أنه لم يقم على ردع؟
عندما يكون معظم الشعب اللبناني ملاحق لا بد من وضع حد لهذه المسألة من أجل فتح صفحة جديدة. هذه فلسفة قانون العفو. مثل كأنها مرحلة انتقالية من اللادولة إلى الدولة حتى نتمكن بعد ذلك من تطبيق عقاب للأعمال الاجرامية. والمشكلة أن الميليشيات تتمتع بحصانة طائفية. ففي حال جرت محاسبة أي مسؤول سوف يظهر كأنك تحاسب طائفته كلها. لذا كنا، في ظل غياب الرقابة القضائية والسياسية، في حالة فوضى كاملة.
8- ألم يكن خطأ أن لا يعمل على مراجعة كل الماضي وتحديد المسؤوليات؟
أتمنى أن يفتح هذا الموضوع لكن هل نستطيع فعل ذلك؟ وخاصة أن كل القوى متورطة في الحرب. لا يمكن أن تخرج البلد من محنته من دون أن تقفل الجرح. كان هذا العفو شكلاً من أشكال هذه المعالجة وان على زغل. لكن في مسألة عدم تطبيق الطائف، الذي نتج عنه التئاماً غير كلي للجرح، يجب أن لا نضيع المسؤوليات. لا يمكن تحميل الشعب اللبناني مسؤولية ذلك. هذا شعب مغلوب على أمره. إذ كيف نفسر أن 60 بالمئة من شبابه وشاباته هاجر إلى خارج البلاد. لدينا ثروة الحريات العامة وهذا ما أنتج أهم النخب في الداخل والخارج. هذه الثروة لم تستخدم. لكن لهذه الحريات شقين: كلام مذهبي وطائفي كثير يقابله أكبر نسبة تسامح ديني في المنطقة العربية والاسلامية. وهذا ما يعيق تجدد الحرب.
9- عن رواسب الحرب أيضاً، لا يمكن أن نتجاهل وجود 17000 مفقود جراء الحرب. لكن الطائف لم يأتِ على ذكر آلية لمعالجة هذه المشكلة. ألا يمكن أن يعتبر ذلك قصوراً فيه؟
القوانين اللبنانية هي الآلية. لدينا قانون عقوبات من الأعرق في المنطقة. لكن هذا يتطلب سلطة قضائية مستقلة تنفذه. لا يزال قانون تنظيمه في لجنة الادارة والعدل منذ عام 1989.
10- لكن ألا يفرض اشتراك زعماء الميليشيات في الطائف والموافقة عليه أن يجدوا حلاً لهذه القضية الإنسانية؟
لا بد من تصحيح أمر مهم. لا علاقة للميليشيات بالطائف. الذين ذهبوا إلى الطائف كانوا نواباً. اما قادة الميليشيات فوافقوا مرغمين بعد معارضة له. رضخوا حتى أتت فرصة اجتياح العراق للكويت فأعادوا تشغيل أدواتهم.
11- لكن ألا يتحمل الطائف مسؤولية تحويل زعماء الميليشيات إلى قادة سياسيين مدنيين؟
هذا السؤال يفترض أن الدستور يطبق نفسه بنفسه. وهذا غير صحيح. نحن بحاجة إلى قوة عليا تطبقه. لكن الميليشيات تبقى ميليشيات ولا علاقة لها بالسياسة والتنظيم. أراهن اذا اقر قانون الانتخاب وفقاً لاتفاق الطائف سوف يتغير كل هذا الخطاب السياسي بشكل كلي نحو الدولة المدنية حتى لدى الأشخاص أنفسهم.
12- هناك مجموعة دعوات من جمعيات المجتمع المدني لمحاسبة مجرمي الحرب. هل تؤيد ذلك؟
لست من أنصار اشغال قوى المجتمع المدني بمعارك وهمية. يجب أن يتوفر لديها قدرة على التنفيذ والتطبيق. عندما نصبح في حضرة الدولة والقضاء المستقل يمكن اعادة فتح هذه المواضيع. لكن الآن لا فائدة ولا امكانية لذلك. علينا الذهاب إلى جوهر الموضوع الذي يتلخص في ثلاث قضايا: قانون الانتخاب النسبي والسلطة القضائية المستقلة وخطة التنمية الشاملة حتى يطمئن الناس. كيف يمكن تفسير غياب الموازانات منذ العام 2005 بغير غياب الامن الاجتماعي؟
13- هل يمكن، إذاً، إعتبار الطائف صالح لحاضرنا هذا؟
صالح لأننا نفقتد لبديل. مثلاً سنة 1989 قلت لمن يرفضونه أن يقدموا لي بديلاً عنه لأسير معهم. لكن احداً لم يقدم شيئاً حتى اللحظة. ما تقوله اليوم القوى السياسية أن البلد معطل. لكنها لا تطرح شيئاً جديداً. قلت في ذكرى فؤاد شهاب، منذ أشهر، إن كنتم لا ترغبون في تطبيقه شكلوا هيئة تأسيسة تنظم لكم قانون جديد. الخطر في أننا نعرف أن المشكلة موجودة وتتفاقم لكننا لا نفعل شيئاً. اذ لا يمكن أن نعيش من دون تنظيم. هذا استهتار بعقول الناس. حتى تعديله لا يمكن أن يتم من دون تطبيقه من أجل أن نعرف مواضع قصوره.
14- ماذا عن جلسات الحوار اليوم؟
هذا حوار اللانظام. نسينا المؤسسات التشريعية والتنفيذية. رغم أن من مهماتها الأولى الحوار. وكما قلت في خطاب استقالتي من المجلس أنهم يريدون دولة بلا مؤسسات ووطن من دون مواطنين. هذه هي طاولة الحوار.
15- هل ترى امكانية للانفجار في لبنان؟
الانفجار مؤجل الآن. ذلك أن الساحة اللبنانية غير صالحة. في الوقت الراهن صارت كل الدول المحيطة ساحات. بل لعل بلدنا أضحى أصغر ساحة وأقلها فائدة.
إثنا عشر قانونًا
لفت الحسيني إلى أن إثنا عشر قانونًا تطبيقيًا طالب بهم الطائف لم يصدر منهم إلا قانوناً واحداً هو قانون قوى الأمن الداخلي. ومن أبرز هذه القوانين قانون السلطة الاجرائية وآلية عملها، قانون رئاسة الجمهورية، قانون المجلس الأعلى للدفاع، وقانون السلطة القضائية، وقانون خطة التنمية الشاملة وآلياتها...
التغيير حتمي
لا يستأهل اللبنانيين استخفافاً بعقولهم وارادتهم بهذا الشكل، بحسب الحسيني. ذلك أن الذين يتولون أمور الناس أقل منهم بأشواط. "الناس أعلى منهم بكثير". لذلك يرى أن التغيير حتمي، في الراهن، لأن "الشعب يريد تطبيق النظام".