الذاكرة الجماعية و التعامل مع الماضي و المستقبل

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 24 آذار 21 بقلم مكرم رباح، محاضر في التاريخ في "الجامعة الأميركية في بيروت" 4 دقائق للقراءة
الذاكرة الجماعية و التعامل مع الماضي و المستقبل
©Adra Kandil
ربّما يكون من الصعب للغاية الإطّلاع على تاريخ لبنان الحديث من دون التركيز على جبل لبنان الذي كان الحجر الأساس للجمهورية اللبنانية التي أسّستها سلطات الإنتداب الفرنسي قبل قرن من الزمان.

 

ربّما يكون من الصعب للغاية الإطّلاع على تاريخ لبنان الحديث من دون التركيز على جبل لبنان الذي كان الحجر الأساس للجمهورية اللبنانية التي أسّستها سلطات الإنتداب الفرنسي قبل قرن من الزمان.

حتى عام 1920، كان تاريخ لبنان، كما وصفه المؤرّخ الكبير الراحل كمال صليبي، قصّة شملت الدروز والموارنة، حيث كانت لسائر الأطراف الفاعلة أدوار ثانوية أو داعمة، الأمر الذي سيتغيّر مع ضمّ المدينة الساحلية اللبنانية والبقاع إلى ما ليس لبنان. ونتيجةً لذلك، كانت التجربة الدرزية المارونية في جبل لبنان مع تقلّباتها العديدة حاسمة في نشوء الدولة اللبنانية الحديثة، ولكن بالقدر نفسه أيضاً عدد من الصراعات العنيفة وفي نهاية المطاف الحروب الأهلية التي وسمت هاتين الطائفتين المؤسّستين، وربّما ظلماً، كعدوَّين لدودَين.

لقد تواجه الدروز والموارنة كطوائف في ثلاث مناسبات رئيسيّة في حروب أهليّة شاملة (1840-1860، 1958، 1983) أدّت إلى عواقب سياسيّة واقتصاديّة وخيمة لا تزال تنعكس على الديناميّة اليوميّة للنسيج الإجتماعي في جبل لبنان. وفي حين أنّ الفصائل السياسيّة المتحاربة، أيّ الحزب التقدّمي الإشتراكي الدرزي والقوات اللبنانية المارونية قد تصالحت علناً، إلّا أنّ ذلك لم يَنفذ حتى الآن إلى جميع شرائح مجتمعاتها، التي رغم أنّها لا تحمل عداوة فعليّة، لا يزال يتعيّن عليها تشريح ومعالجة الذكريات العنيفة التي ورثتها.

إنّ عدم الوصول إلى الخاتمة والمصالحة المناسبة ليس بالضرورة مسؤولية النخبة السياسية في لبنان بالكامل، بل بالأحرى إنّه عجزها أو إهمالها لجوهر النزاع الذي هو الذاكرة الجماعية لكلا الطائفتين، والذي ترك من دون معالجة، وبالتالي أتاح تجدّد النزاع عندما سمحت العوامل والجهات الفاعلة بذلك.

في كتابي الأخير “Conflict on Mount Lebanon, the Druze, the Maronites and Collective Memory” (صراع على جبل لبنان، الدروز، الموارنة والذاكرة الجماعية) (دار نشر جامعة أدنبرة، 2021)، أستكشف تشكيل الذاكرة الجماعيّة لكلّ من الطائفتين الدرزية والمارونية، والتي استخدمتها مراكز القوى الخاصّة بكلّ منهما كسلاح لحشد طائفتها أمام تهديدات مفترضة جماعيّة وجوديّة تخدم في جوهرها الأجندة أو الأجندات الشخصية للزعيم. وبالتالي، بدلاً من الخوض في النهج التقليديّة لفهم إنزلاق لبنان المتكرّر إلى العنف، والتركيز على النظام الطائفي اللبناني أو التدّخل الدولي، يجب تشريح الذاكرة الجماعية، وأنّ فهم آليّتها المعقّدة يشكّل مدخلاً نحو فهم سبب شعور الجيران بالرغبة في أن يصبحوا أعداءً لدودين.

خلال البحوث والمقابلات التي أجريتها مع العديد من شخصيات كتابي التي شاركت بنشاط في الصراع بين 1975-1900 على الصعيدين السياسي والعسكري، تبرز الذاكرة الجماعية بشكل كبير وتؤكد الدور الذي لعبته في إحداث الصراع. ومع ذلك، فإنّ تكوين الذاكرة الجماعية وكذلك تصوّر الشخصيات لذاتها وللآخر أيضاً ظلّ فعلياً من دون معالجة، لا بل بقي معلّقاً لحين نشوء شكل آخر من أشكال الصراع.

في العام 1991، أقرّ مجلس النواب اللبناني الذي يمثّل مختلف الفصائل المتحاربة، قانون عفو كان من المفترض أن يفتح فصلاً جديداً في تاريخ البلاد، ولكنّه فشل في ذلك على مستويات مختلفة. وبدلاً من استخدام العفو العام للإنفتاح على هذه الذكريات والأحداث العنيفة، مثل نموذج الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، تحرّكت النخبة السياسية اللبنانية ببساطة وحالت دون أيّ فرصة حقيقيّة لمناقشة مثل هذه الأمور، وحرص الإحتلال العسكري السوري بالقدر نفسه على التأكّد من ذلك.

إنّ الفرضيّة الرئيسيّة المتمثّلة في تشريح الذاكرة الجماعية علناً لا تهدف إلى خلق جماعة وطنية واحدة، بل إلى نزع السلاح من الذاكرة الجماعية للمجتمعات المختلفة، على الأقلّ العناصر العدوانيّة، مع ترك الباقي للإستمرار عضوياً في إضفاء التنوّع والتعدّدية على المجتمع اللبناني.

إنّ التعامل مع الماضي ليس أبداً مسعى سهلاً، خصوصاً أنّ الناس يفضّلون البقاء في منطقة الراحة الخاصّة بهم ويرفضون الإعتراف بقصورهم. ومع ذلك، لكي يصل لبنان إلى هذا المستوى الطائفي والوطني التأمّلي، فإنّه يحتاج إلى سنوات أو ربّما عقود لمعالجة تاريخه بشكلٍ صحيح والإعتراف بضرورة الحفاظ على الذاكرة الجماعيّة كحاضنة للتنوّع بدلاً من كونها أداة لوضع الناس ضدّ بعضهم البعض.

إنّ فهم الذاكرة الجماعية لا يسمح لنا فقط بفهم الصراع في جبل لبنان بشكلٍ صحيح، بل أيضاً بفهم العديد من الصراعات عبر تاريخ لبنان المعاصر، مثل الإنقسام العلوي السنّي في طرابلس أو حتى عكسه على الخلاف المفترض البدائي المستمرّ بين السنّة والشيعة. وقبل كل شيء، سيكون غزو الذاكرة الجماعيّة بمثابة خطوة أولى نحو الإنخراط بشكلٍ صحيح في المصالحة، التي من شأنها إشراك جميع الأطراف من دون وساطة من الأوصياء الطائفيين، لتكون بالتالي بمثابة بوّابة نحو تحقيق الخاتمة المناسبة للماضي، وبناء الدولة لمستقبلها.

A+
A-
share
آذار 2021
أنظر أيضا
01 نيسان 2018
01 نيسان 2018
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
01 نيسان 2017
01 نيسان 2017
أحدث فيديو
كلما أعطيت الأرض أكثر، كلما أعطتك المزيد
SalamWaKalam
كلما أعطيت الأرض أكثر، كلما أعطتك المزيد
SalamWaKalam

كلما أعطيت الأرض أكثر، كلما أعطتك المزيد

تشرين الأول 06, 2023 بقلم يارا ضرغام، -
تحميل المزيد