تضيق الحياة على نسوة لبنان، مع تزايد الأزمة الإقتصادية، والعنف الإقتصادي الذي لحق بهن خلال
الأزمة، فباتت النسوة تبحثن عن مساحات خاصة آمنة، ومشاريع منتجة إقتصادياً لتحقيق إستقلالية مادية نوعاً ما، من المشاريع الثقافية، والرياضية، وصولاً إلى عالم الطبخ، مبادرات عدة قامن بها النسوة في المناطق النائية. وكذلك يعد المتنفس الرياضي حكراً على الرجال، لا سيما في المناطق النائية في لبنان.
بعض السلطات المحلية لا تولي أي إهتمام للإحتياجات النساء، وضرورة إشراكهن في العمل الإجتماعي أو الإقتصاديفي بعض البلديات وفي المدن والقرى النائية . من هنا تنشط العديد من المبادرات النسوية على عدة أصعدة، وتحاول النسوة إعلاء الصوت عاليٍاً، للقول "بأنهن موجودات ومنتجات إقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً ورياضياً".
فمن دعوة "مَيْلي"، لشرب فنجان قهوة بين الجيران. عملت مجموعة نساء في مدينة بعلبك إلى إنشاء مكتبة وقهوة "مَيْلي" النسائية سعياً منهن إلى خلق مكان مريح لهن، يُمكن النساء والفتيات للإستفادة منه للدراسة، والعمل، والتسلية ومشاركة الأحاديث.
لم تتوقع الشابة مهاد حيدر (28 سنة)، بأن يحدث الإعلان عن قهوة ومكتبة مَيْلي صداً واسعاً على مواقع التواصل الإجتماعي، عبر رسائل الترحيب والتشجيع، والمساهمات الكُتبية للمكتبة، والتي أعلنت عن إستقبالها تبرعات بالكتب النسوية والثقافية. وتؤكد حيدرـ، أن الهدف الأول هو خلق مساحة آمنة لنسوة بعلبك، وأن تكون محطة أو تجمع للنقاش، والإستجمام عبر شرب القهوة وغيرها، دون أن تخترق هذه المساحة ذكور المنطقة، سواء المتحرشين، أو الذين يتدخلون بحياة النساء وتحديد إختياراتهم، وفي أغلب الأوقات تتبع النسوة في بعلبك وغيرها إلى السلطة الأبوية والعائلية.
الإعلان عن المكتبة والقهوة، أثار حفيظة بعض الأشخاص في المدينة المة، وإتهموا القيمين على "مَيْلي"، بأنهم يقومون "بالتمييز الجندري"، كون المكان مخصص للنساء. فمن هنا تقول حيدر، إن المساحات في بعلبك، هي حكر على الرجال، من الشوارع والساحات والأسواق والمحلات والبيت وبعض المقاهي المخصصة للرجال، وإن تواجدت أماكن للنسوة فتكون محط أنظار الجميع من حيث تصرفاتها ونقاشها، ففكرة
مَيْلي، تحمل في طياتها إنطلاقة للأولية خلق مساحات للنساء، للإلتقاء وصنع هوية خاصة بهن.
كما ترافق الاعلان عن المقهى والمكتبة، بهجوم؟؟ إلكتروني من خلال حسابات وهمية على صفحة الإنستغرام التابعة للمقهى، وهي محاولة لتشويش عمل النساء. وتشير مهاد حيدر، "أن الهدف من مَيْلي أن لا تكون إستفزازية في المنطقة، بل هي متاحة لنسوة من مختلف الإنتماءات الإجتماعية والدينية والسياسية، وهي ليست محاولة لفرض شعارات نسوية تخيف البعض، بل هي مساحة خاصة بالنساء، ليكن على سجيتهن، دون عيون المتحرشين، وأن تكون فرصة لتبادل الخبرات والمعرفة التشاركية معهن. وسوف يعمل المقهى وفق ما يرغبن النسوة، ففي حال رغبن بتعلم مهنة الحياكة والتطريز، يمكن لأي سيدة التبرع لتعليم السيدات هذه الحرفة، وغيرها من النشاطات اللواتي يرغبن أن يقمن بها، والهدف ليس بثقافي فقط، بل هي مكان أيضاً للراحة والاستجمام.
البحث عن الأماكن العامة، لا يتوقف عند حد الالتقاء والإجتماع، بل يتعداه إلى ممارسة بعض الرياضات في مناطق لبنانية نائية، فقد إستطاعت إبنة بلدة جب جنين البقاعية آلاء عبد الباقي (21 عاماً)، من تشكيل فريقاً رياضياً للعبة كرة السلة، حيث تقوم بتدريبهم أسبوعياً.
فحكاية آلاء بدأت منذ قيامها في مدرستها بلعب كرة القدم، وحين بدأت في سن المراهقة، وجهتها معلمة الرياضة إلى التدرب على لعبة كرة السلة، كونها محبذة للفتيات أكثر. فلم يكن محبذاً لعائلة آلاء أن تكون منخرطة بالألعاب الرياضية، "كونها ألعاباً صبينية، وكانوا يطلقون عليها إسم حسن صبي، لدلالة على ذكورية اللعبة". حب آلاء للرياضة، وعدم تواجد فتيات للعب معها في سن المراهقة، تسببت بمضايقتها من قبل أقاربها وعائلتها الذين طلبوا منها التوقف عن اللعب، والتركيز على دراستها، إلا أنها لم تستمع لهم. منذ عام ونصف تقوم آلاء بتدريب بنات بلدتها، وهي منخرطة أيضاً في تجمع النساء الديمقراطي، الذين قدموا لها الدعم والأمور اللوجستية لتطوير عملها. فتقول آلاء، "أن النساء في المناطق البقاعية، لا تملك إي متنفس لها، ففريق الرياضي، جمع الفتيات ليس فقط بسبب حبهم للرياضة، بل لكونه فسحة لتفريغ طاقاتهم، ومشاركتهم همومهم ومشاكلهم، والبحث بين بعضهن البعض على حلول قد تصادفهم".
الفريق النسائي الذي يتدرب بملعب البلدة، يتعرض لبعض المضايقات كون الملعب هو للعامة ولا يمكن أن يُستأجر، وحين ينتظر الشبان دورهم للعب، يقومون برمي تعليقات مستهزئة بهن، "كأنكم لا تجيدون اللعب، و ليس لديكم بطولات". لكن ذلك لا يمنعهن من متابعة شغفهم باللعب الرياضي. تتلقى آلاء الكثير من التعليقات الإيجابية بسبب تغيرها لعادات الفتيات اللواتي يتدربن معها، وأبرزها قدرتهم على الإهتمام بهواياتهم، وإيجاد فسحة للتلاقي، حتى أن العديد من الفتيات وضعوا سلة للعب في بيوتهم ليتابعوا التمرين دائماً. آلاء التي تسعى عبر نشاطها النسوي والرياضي، إلى تغيير بالعقلية السائدة في المنطقة التي تكون بها النشاطات الرياضية حكراً على الشباب، حلمها الأكبر إنشاء أكاديمية رياضية في المنطقة، وأن تدرب جميع المراحل العمرية. والمفارقة بأن تخصص آلاء الجامعية هو بعيد كل البعد عن هوياتها، فهي تُكمل دراستها في الرياضيات.
في مدينة بنت جبيل الجنوبية، لم تتخيل نفسها السيدة فاطمة مكي، أن تخرج للعمل من منزلها، ولا سيما أن زوجها كان مُعارضاً للفكرة، لكن مع الأزمة الإقتصادية منذ العام 2019، وتراجع عمل زوجها، بات إنخراضها في العمل ضرورة لتأمين إحتياجاتهم اليومية، وعلاج إبنها الوحيد. فكانت الجمعية التعاونية "الزودة" في المدينة الملجأ لفاطمة للعمل وإنتاج المونة البلدية، وبيعها تسويقها. وفكرة التعاونية التي أسستها السيدة غادة بزي مع عدة نساء في العام 2007، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الـ UNDP، لتأمين فرص عمل للنساء، وجعلهن منتجات إقتصادياً. فتقول السيدة فاطمة، بإن "العمل في التعاونية أتاح لها فرص الحصول على دورات في الطبخ والتصنيع المحلي، وللجمعية لها سوق عمل كبير يعتمد على المغتربين، وقد تمكنوا من المشاركة بعدة معارض للمنتجات القروية في العاصمة، كما وسع أفقاها وثبت لها دورها الإنتاجي في الحياة". كما تلفت مكي، "بأن فكرة العمل الجماعي النسائي، هو أشبه بجمعة عائلية تعتمد على التعاون ومشاركة وحل المشاكل، والتنفيس من الضغوط اللواتي يتعرضن لها النساء". في المقابل تقول مؤسسة الجمعية غادة بزي، بإن الجمعية إستطاعت أن تُصرف إنتاج المزارعين في المنطقة، وخلقت دورة إقتصادية، تتميز بالصناعة العضوية بعيداً عن الإستخدام الكيمائية في الزرع والإنتاج، وهذا ما يميز عمل الجمعية كما خلق لها سوقاً تصريفياً للمنتجات ولا سيما من قبل المغتربين.
كانت جائحة كورونا السبب بترك الشابة سهاد حمية (33 عاماً) من بلدة كفرحتى جنوب لبنان، لعملها وجعلها عاطلة عن العمل، ما جعلها تبحث عن بديل للعمل، ولأن الأشغال كانت مقفلة، إستغلت الشابة إقتنائها سيارة، لتعلن أنها ستكون سائقة ديليفري في البلدة، توصل أهالي الضيعة الذين لا يمتلكون سيارة إلى أي مكان يرغبون به، وتقوم بتأمين إحتياجات النسوة من البلدة. أحدث عمل سهاد في البلدة صداً إيجابياً، كونها أول فتاة تمتهن هذه المهنة، وهي ذات شخصية محبوبة في البلدة. وتؤكد سهاد، بأنه يجب على كل إمرأة أن يكون لها إستقلاليتها المادية، ولا عيب بالمهنة التي تختارها، لأنها بذلك تقوي شخصيتها وعزيمتها في المجتمع. تحظى سهاد بتعليقات إيجابية من زبائنها، بسبب سرعتها في تلبية طلباتهم دون نسيان، وحسها بالمسؤولية.
وهذه الوسيلة تعد الملجأ الآمن لتنقل الفتيات بالبلدة، دون تعرضهم لمضايقات وتلطيش كلامي، تشبه سهاد سيارتها بكاتمة الأسرار، كونها إستطاعت من خلالها تكوين صدقات عدة مع أبناء البلدة ولا سيما بناتها، وباتوا يتبادلن الأحاديث والمشاكل، وما يمرون به.
كما أن الأطفال في البلدة، يحبذون الذهاب معها، وباتوا عندما يرونها في مكان ما يركضون لعناقها، بسبب محباتهم لها.
في بلدة بعقلين الشوفية، حولت السيدة ناديا بو مطر، مهنتها في تدريس اللغة الإنكليزية، إلى محل ومصنع للحلويات أطلقت عليه اسم the English teacher bakes، فإستمدت الإسم من عملها الأساسي، وحلمها في عالم الطبخ والحلويات إلى مختبر أو مطبخ للحلويات. بدأت بو مطر عملها منذ ست سنوات، عبر تسويق الأونلاين لعملها، وكان عملها محصور في منطقة بعقيلن وجورها، إستطاعت بو مطر أن تخلق لها زبائن في المنطقة يفضلون العمل المنزلي، في عملها لا تعتمد على شراء أي شيء من السوبر ماركت تصنع كافة المحتويات قوالب الحلوى على يديها، دون اللجوء إلى علب تحوي مواد حافظة، على عكس محال الحلويات الجاهزة. وبعد ست سنوات من العمل في منطقة الشوف، قررت بو مطر إفتتاح متجر لها في منطقة الصيفي في بيروت، بعد أن نَمت لها زبائن لها نتيجة التسويق الإلكتروني التي إعتمدته. أما هدف بو مطر المستقبلي التوصع بعملها في لبنان والخارج. كما تقول بو مطر أن عملها حقق لها إستقلالية أكثر، كون لا يوجد رب عمل يدير عملها، بل هي المسؤولة عم عملها بالكامل.
تتعدد ظروف وإمكانيات كل إمرأة في مختلف المناطق اللبنانية، إلى أن نسوة المناطق النائية يبذلن جهداً مضاعفاَ لإثبات أنفسهن، وتحقيق إستقلالهن المادي والإجتماعي، ومحاولة تغير الصور النمطية التي توسم بها النساء، بأنهن ضعيفات وخاضعات للمنطومة الأبوية الذكورية.