شوارع بِلا باصات باصات بِلا ركّاب

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 26 أيلول 22 بقلم سمير سكيني، صحافي 6 دقائق للقراءة
شوارع بِلا باصات باصات بِلا ركّاب
هيدا تبع الـ1,500 ، انسَ مننطر تبع الـ1,000.

كان هذا التعليق الأوّل الذي أنذرنا بقدوم أزمة المواصلات في لبنان، الأزمة القديمة- الجديدة. «فان رقم 4» قرّر رفع التعرفة. كانت الألف ليرة تأخذنا من الليلكي إلى الحمرا، ومن جهتي، كانت تأخذني من منزل الشيّاح إلى مدرسة الجمّيزة. «فان رقم 4» يا مَعيّشنا، كنّا نقول، فان الفقراء.

اليوم، عند كتابة هذه السطور، يبحث سائقو «فان رقم 4» رفع التعرفة من 15,000 إلى 20,000 ليرة، في حين أنّ سعر صرف الدولار قد تخطّى الـ30,000 ليرة. قد تقولون: «جيّد، يعني أنّ النقلة بنصف دولار»، لكنّ معادلة الكلفة وثمن السلَع لا تمشي معكوسةً، إذ لا تزال أجور اليوم تعادل أجور ما-قبل-الأزمة، وقد بات 80٪ من المُقيمين على خطّ الفقر أو تحته

الأزمة

أمس القريب، جاءت الانتخابات، ثمّ راحت الانتخابات، بنتيجةٍ أفضل ممّا توقّعناها، لكنّ يصعب التعويل عليها للخروج من الانهيار. وقبل الانتخابات، جاء الانهيار، لكنّه لا يزال هو هو الانهيار، كما توقّعنا. وخلال الانهيار جاءت الكورونا، وقبل الانهيار جاءت الانتفاضة. بالتوازي مع تلك المحطّات الكبرى، كانت «أزمة البنزين» تأتي وتغيب دوريّاً.

وقد سُمّيَت «أزمة بنزين» نظراً لانقطاع المحروقات من المحطّات، ولاصطفاف السيّارات طوابير طوابير أمامها. كان مشهد الطوابير كافياً لنستنتج أنّ الأزمة ليست أزمة بنزين فحسب، بل أزمة مواصلات. سيّارات خاصّة كثيرة، مواصلات عامّة قليلة، وإنّ وُجدَت فتنوَجد وفق قانون الفوضى والاحتكار: لكل حزب/ عشيرة خطّه الخاص الذي يُسيّر عليه مواصلاته العامة، الخاصّة به.

أمّا الدولة، حدّث ولا حرج، لدرجة أنّ أجدد ما عرضته في سوق المواصلات كان اسمه «جحش الدولة». ولا أي مبادرة جديدة منذ ذلك الحين. لا بل اقتراحات لخصخصة قطاع النقل، ما يعني أعباءً إضافية على المستخدمين، وأرباحاً إضافية للشركات الخاصّة المرتبطة بالسياسيّين.

فقط منذ أيّام، في 23 أيّار الفائت، استلم  لبنان 50 باصاً للنقل العام من فرنسا، بمتابعةٍ من وزير النقل والأشغال علي حميّة. 50 باصاً من خارج أي خطّة للنقل العام، لا نعلم بعد آلية تسييرها، وقد تأتي بنتيجةٍ معكوسة بسبب زجمات السير. كما أنّ المبادرة هذه قد جاءت، للأسف، بعدما بدّدت  الحكومة السابقة قرضاً ميسّراً بقيمة 295 مليون دولار من البنك الدولي لإصلاح قطاع النقل العام في لبنان.

المستخدمين

كل أنواع المركبات انتظرت في الطوابير، إلّا الدراجة الهوائيّة. هذا من جهة المركبات. لكن ماذا عن جهة الراكبين؟ راكبو الباص، أو السرفيس، أو الفانات أو السيّارات الخاصة؟

في شهر آب 2021، أعلن المصرف المركزي رفعه الدعم عن استيراد المحروقات. كانت هذه واحدة من أقسى صفعات الانهيار. بعد هذا التاريخ، لن تعود شوارع لبنان كما هي. لن تعود بيروت كما هي. محطّات الانتظار (غير الموجودة أساساً)، ستبقى فارغة، والشوارع ستستقبل الحدّ الأدنى من الروّاد، وستبدأ الحيَل غير المجدية للالتفاف على الأزمة.

بعض هذه الحيَل كانت الدراجة الهوائيّة، التي بقيَ نطاقها محصوراً، ولم تسعفها حرارة الطقس ولا طرقات لبنان غير المجهَّزة لهذا النوع من المواصلات. لا بل، تحرص طرق لبنان على جعل الدراجة الهوائيّة وسيلة تنقّل خطرة للغاية، بين زُحام السيّارات وحُفَر الطرقات.

حيلٌ أخرى كانت اختيار منصّات النقل الجديدة مثل «أوبر» أو «بولت»، تفادياً لتكبّد عناء الانتظار في الطابور. لكنّ كلفة هذه المواصلات جعلتها تنحصر بفئة اجتماعية محدّدة، ولم تُحلّ المشكلة سوى لهؤلاء، في حين بقيَت الأكثريّة تنام ليلاً أمام المحطّات وتستيقظ الفجر لاستجداء الدور في الطابور.

ثم وُضعَ عدد من الركّاب/ العمّال أمام مصيرهم: كلفة الذهاب إلى العمل صارت أعلى من أجر العمل نفسه. فماذا نفعل؟ لا سيّما وأنّ خيار العمل من المنزل ليس متاحاً أمام جميع الوظائف وجميع البنى التحتية، بل هو، في الحالات اللبنانية، أيضاً من نصيب القلّة القليلة.

فرضَ هذا الواقع توقّفاً قسرياً عن العمل، وبحثاً عن وظائف أخرى لا تخضع لشروط المواصلات.

تدحرج الأزمة

لكن سرعان ما تبيّن أن أزمة النقل انعكست على كل القطاعات. صرنا نسمع في الدكاكين أنّ السلعة الفلانية– ومع أنّها صُنعَت محلياً وكلفة موادها بالليرة، إلّا أنّ ارتفاع سعرها سببه ارتفاع كلفة نقلها من المصدر إلى المستهلك.

تغيّرت الكثير من عاداتنا. قلّ ذهابنا من المدينة إلى قُرانا، فالمشوار مُكلف. صديقٌ لي دفع مليون ليرة لزيارة أهله في البقاع بالتاكسي، مُقابل أكثر من مئتَي ألف ليرة بالفان، وأكثر من 600,000 بـ«أوبر».

ومن كان يركب «أوبر» صار يركب السرفيس، ومن كان يركب السرفيس صار يركب الفان، ومن كان يركب الفان عضَّ على جرحه ومشى.

كان مقدّراً للمستخدمين أن تنقلب حياتهم رأساً على عقب عند أبسط أزمة، فشبكة المواصلات أضعف من تحمّل أزماتها. لا لشيءٍ، سوى لأنّ الدولة قد قرّرت ألّا ضرورة لأن يكون النقل العام عام وآمن ومُنظّم.

ينسجم ذلك مع هيمنة النيوليبرالية على مجتماعتنا الاستهلاكية، وتأثيرها على منطق التملّك والتنقّل: يجب على كلّ فردٍ أن يمتلك سيّارته الخاصّة، وأن تكون سيّارته مميّزة، ليتميّز الفرد عن الآخر. كما استقصدت الدولة منذ عقود أن تُجَزّء وسائل النقل، فذلك يستتبع أن تُجزّأ العلاقات الاجتماعية، وتُجَزّأ دوائر التواصل.

تاريخياً، انتقل لبنان من الترامواي، الذي كان يضمّ عدداً كبيراً من الركّاب ذي الخلفيّات الفكرية والمنطقية والطبقية المتنوّعة، إلى الباصات، التي باتت تضمّ عدداً أقل، وصعد نجم «جحش الدولة» على حساب الترامواي. قليلاً وبهَتَ «جحش الدولة» ولمعَ نجم الفانات، ثمّ السيّارات الخاصة. من 60 راكباً، إلى 40، إلى 20، إلى 4، إلى واحدٍ أحَد.

كان هذا التقسيم حادّاً للغاية، لدرجة أنّ تغييره وعكسه لم يكن ممكناً إلّا بفضل الانهيار، فبات الواحد والواحد يبحثان عن سيّارة واحدة لكلَيهما. وصارا يحاولان، مع واحدَين آخرَين، أن يستفيدا من السيّارة ذاتها. وراجَ منطق الـcar pooling.

التنميط

تبقى الثغرة في أنّ ما ذُكر حتّى الآن يعكس تقلّبات علاقة المستخدم مع وسيلة النقل بحسب التقلّبات المالية. في الواقع، ليست هذه النقطة المعيار الوحيد. المعايير الاجتماعية والنفسية تلعب دوراً هاماً في اختيار وسيلة النقل في لبنان، ولو جاء ذلك على حساب كلفة مالية أعلى.

تندرج هذه المعايير ضمن قسمَين:

  1. معايير يتبنّاها المستخدم بإرادة، مثل أن يتماهى مع فكرة أن وسيلة النقل الخاصة تعكس وضعاً اجتماعيّاً أرقى، وأنّ الفان على سبيل المِثال يعكس وضعاً طبقيّاً «شعبياً» على مستخدميه. ولذلك، يختار المستخدمون الخضوع لقواعد «البريستيج اللبناني»، ولو على حساب كلفة هذه المظاهر والمعايير الوهميّة.
  2. معايير تُفرَض على المستخدم من خارج إرادته، مثل المضايقات وجرائم التحرش التي تتعرّض لها مستخدمات وسائل النقل العام، عندما يركبن إلى جانب السائق أو حتّى خلفه، أو حتّى الركّاب الذين يختارون الاستمناء ذاخل الفانات مثلاً! يُضاف إلى ذلك المُضايقات التي لا تتعلّق بالمسألة الجندرية، بدءاً من المدخّنين داخل آليات النقل، وصولاً إلى حالات النشل والسرقة وخانة «قلّة الأمان».
  3.  

من الصعب إذاً التفكير بإعادة هيكلة قطاع النقل العام من الزاوية المالية فحسب، كون مشاكله تتخطّى هذه الزاوية. من الصعب نفض هذا القطاع من دون البحث بتغييرات جدّية تتعلّق بالموقف الاجتماعي/ الجندري/ النفسي من هذا القطاع. كما يصعب حلّ هاتَين الزاويتَين بمفردهما «على القطعة»، من خارج أي خطّة شاملة للنقل العام في لبنان.

فهل يصفع الانهيار السلطة لتنبيهها إلى عمق أزمة النقلة التي جاءت على حساب الأرباح؟ وهل يفرض الانهيار على الدولة أن تستغلّ مشاكل النقل الحالية للبحث بحلول مُجدية ومُستدامة، بعيداً عن الترقيع؟ علّهُ، يوماً ما، يعود الركّاب إلى باصات الحياة، برخاء، وتعود المدينة مدينة، لا مسرحاً للأشباح.

A+
A-
share
أنظر أيضا
17 حزيران 2024 بقلم جنى بيضون، طالبة في الجامعة الامريكية في بيروت
17 حزيران 2024
بقلم جنى بيضون، طالبة في الجامعة الامريكية في بيروت
17 حزيران 2024 بقلم ايليو مبيض، صحافي
17 حزيران 2024
بقلم ايليو مبيض، صحافي
02 حزيران 2024 بقلم عبير مرزوق، صحافية
02 حزيران 2024
بقلم عبير مرزوق، صحافية
أحدث فيديو
تحميل المزيد