تجسد مواقف السيارات أحد القيود العديدة المفروضة على سكان المدن. وتشكل الاشتراكات الشهرية المدفوعة لضمان مكان لركن السيارة بالقرب من المنزل، والرسوم المدفوعة في كل مرة يحتاج فيها المرء إلى قيادة السيارة وركنها عبئاً مالياً كبيراً. التجول في السيارة في دوران متكرر، والرفض المتتالي من المواقف الممتلئة بالسيارات، والاضطرار إلى الاعتماد على خدمات "الركن"، تسبب الإحباط والغضب، وهدر الوقت والطاقة. من الصعب أن نتخيل أنها يمكن أن تثير أي شكل من أشكال الاهتمام، أو أنها يمكن أن تمثل أي شيء آخر غير الروتين المزعج.
غير أن مواقف السيارات ليست مجرد قطع أرض فارغة: إنها جروح في النسيج الحضري، وغالباً ما تشير إلى مكان وجود مبنى قديم قبل هدمه، إما بسبب الحرب أو التلف أو إنشاء العقارات. إنها تكشف عن عملية تدهور في الأحياء التقليدية، وهي عملية يشجع عليها الإطار التنظيمي والمالي.
في الواقع، من الأسهل والأربح دائماً بيع قطعة أرض خالية، كما أن الحصول على تصريح للهدم هو أسهل طريقة لطرد المستأجرين الذين يستفيدون من بدلات الإيجارات القديمة. علاوة على ذلك، تقتضي قاعدة خاصة في قانون البناء تحويل الأراضي المحررة بعد هدم مبنى سابق إلى موقف للسيارات بين وقت الهدم ومنح رخصة البناء. وهكذا تكون مواقف السيارات مساحات انتقالية بين مبنى اختفى من الوجود وآخر قادم.
ولكن هذه المواقف تعاني في بعض الأحيان، وتبقى غير مبنية لسنوات عديدة بسبب الوضع الخاص لأصحابها، فهم إما لا يملكون القدرة المالية للانخراط في مشروع بناء أو لا يستطيعون التوصل إلى اتفاق بين أفراد العائلة والمساهمين. وفي حالات أخرى تبقى غير مبنية لأنها تستخدم من قبل مؤسسات مثل المستشفيات والجامعات التي تحتاج إلى مواقف سيارات للموظفين والمستخدمين والزوار، أو ببساطة لأن ركن السيارات عمل مربح لا يمكن أن يزدهر إلا بسبب الازدحام المروري العام والطلب المرتفع بشكل لا يصدق الناجم عن ذلك. في جميع الحالات، فإن استمرار وجود قطع الأراضي غير المبنية على مدى السنوات يحولها إلى ملامح للأحياء يمكن التعرف عليها، تشبه إلى حد كبير بعض المباني الرمزية.
سواء كانت مؤقتة أو دائمة، فإن المساحات السلبية المتمثلة في مواقف السيارات أكثر إثارة للاهتمام مما تبدو، بل إنها تحقق بعض الفوائد المدهشة للمدينة. فمن خلال الفجوات التي تخلقها هذه المواقف، يصل ضوء الشمس المباشر إلى عمق الأحياء والمباني المحيطة، و يتحسن دوران الهواء في الشارع وداخل الشقق السكنية. إلا أنه من الصحيح أيضاً أن مثل هذه المزايا يمكن أن تتقلص أو ينعكس مسارها بشكل ملحوظ في أوقات الحرارة الشديدة والرياح الخفيفة، عندما تخلق الأسطح المطلية بالإسفلت الأسود جزراً حرارية حضرية.
غير أنه في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة والمزدحمة، تقطع مواقف السيارات النسيج الحضري المتواصل وتشكل دائماً حالات مميزة في المشهد الحضري. إنها تفتح آفاقاً، وتخلق تراجعاً في المشهد بحيث تصبح الواجهات أكثر بروزاً، مما يخلق زوايا للرؤية على مستوى الشارع نادرة نسبياً. غالباً ما يكشف الهدم المفاجئ لأحد المباني عن آفاق جديدة في عمق المربعات الحضرية وعن واجهات داخلية مخفية سابقاً: بعضها لم يُقدّر لها أبداً أن نكون مكشوفة، في حين أُعيد تسليط الضوء على البعض الآخر بعد أن كانت مخفية لعقود بسبب تراكب المباني بصورة عشوائية. في بعض الأحيان أيضاً، تؤدي إزالة مبنى إلى إنشاء خطوط للرؤية غير متوقعة باتجاه المدى أو البحر أو الجبال.
وكثيراً ما تحتوي مواقف السيارات على ميزات تذكرنا بوظيفتها السابقة. ومن خلال البقايا، تحتفظ بذكريات ضعيفة للمباني المختفية. بهذه الطريقة، تحتفظ مؤقتاً بشيء من تلك الذاكرة التي ساهمت في محوها.
غالباً ما تدخل السيارات إلى موقف من خلال البوابات وما كان في السابق سياجاً ومدخلاً رئيسياً للحديقة الأمامية: جدران مبنية من الحجر الرملي المميز، وأسوار من الحديد المطاوع، ودرابزين خرساني تقليدي محدَّث، وأعمدة أبواب ضخمة بشكل زائف مع تيجان للأعمدة مصنعة بدقة تبرز أحياناً الأحرف الأولى المنحوتة العائدة لإسم المالك الأصلي.
غالباً ما يمكن رؤية بصمة مبنى كان قائماً، منقوشة على جدار الجملون لمبنى مجاور تم بناؤه بشكل متصل في البداية. بعد ذلك، تبرز الخطوط العامة للهيكل المختفي من خلال قطع متعرجة من الحجارة والجص والخشب والبلاط التي تشير إلى النطاق السابق للجدران الخارجية وخط السقف. وفي بعض الأحيان تظهر ضمن هذه الحدود شبكة الجدران الفاصلة، وتحدد جزءاً من مخطط الطوابق المختفي الذي يمكن تخمينه من تشطيبات الجدران المختلفة: يبيّن ورق الجدران والكورنيش غرفة الجلوس، فيما الطلاء بألوان الباستيل هو من سمات غرف النوم، ومن المؤكد أن يدل بلاط السيراميك على الحمام والمرحاض والمطبخ في بعض الأحيان، خاصةً عندما تكون بقايا الخزائن واضحة أيضاً. ومن المفارقات أن تدمير الذاكرة الحضرية الناتج عن هدم أحد المباني يمكن أن يكشف أحياناً عن ذاكرة حميمة كان يتعذر الوصول إليها سابقاً.
ويمكن للحدائق الخاصة أيضاً أن تترك بصماتها. في بعض الأحيان تكون الأشجار محفوظة عندما لا تشغل مساحة كبيرة وعندما لا يعيق موقعها الطريقة المفترضة لركن السيارات. وينطبق ذلك بصفة خاصة على امتداد الحواف السابقة للحدائق حيث أن الأشجار التي كانت تخلق جواً حميماً، توفر الآن بشكل ملائم الظل للسيارات المركونة تحتها. ولأسباب أكثر غموضاً، يتم أحياناً الحفاظ على الأحواض والنوافير السابقة أيضاً، كأنما تنقل إحساساً بالنضارة في مواقف السيارات المعبدة التي تسودها الحرارة المرتفعة والجفاف.
تُعتبر النضارة والمساحات الخضراء من المواد القيّمة في بيروت، وتتزايد الحاجة إليها من أجل التكيف مع تغير المناخ، ولكنها نادرة بشدة في العاصمة حيث يستطيع السكان الاستمتاع فقط بـ 0.8 متر مربع هي نصيب الفرد من الطبيعة - أقل من 10 في المائة من 9 أمتار مربعة أوصت بها منظمة الصحة العالمية. تكشف هذه الملاحظة عن الإمكانيات التي تمتلكها مواقف السيارات العديدة التي تقطع المشهد في كل حي: إمكانية أن تصبح المواقف حدائق لا تسد جزءاً كبيراً من النقص في المساحات الخضراء فحسب، بل توفر أيضاً لسكان المدن مساحات عامة جديدة مشهورة بقلتها في بيروت.
بالطبع، لكي يتحول جزء من هذا السيناريو إلى حقيقة واقعة، يلزم اتخاذ العديد من الخطوات الأولية، مدعومة بإرادة سياسية قوية: الوسائل المالية اللازمة لشراء وتنسيق عدد كبير من قطع الأراضي الخاصة، وسياسات النقل العام التي من شأنها تقليل الاعتماد على السيارة، وربما إنشاء مواقف عامة، على أن تكون أعدادها ومواقعها مدروسة جيداً. إلا أن هذه الظروف غائبة اليوم في بلد يواجه خطر الإفلاس والجمود السياسي، وعاصمة تتطور بصورة عشوائية دون أي رؤية استراتيجية.
بصرف النظر عن التحديات، تشكل مواقف السيارات مورداً لبيروت، وإمكانية كبيرة لتغيير صورة المدينة وتحسين ظروف العيش فيها. وهذا صحيح بصفة خاصة نظراً لأنها تشكل حوالي 7 في المائة من المساحة الإجمالية للأحياء ذات الكثافة السكانية المرتفعة، مثل الحمرا أو فسوح: نادراً ما تحتفظ المدن ذات الكثافة السكانية القصوى في نفس الوقت بمثل هذا الكنز الدفين من الأراضي غير المبنية التي يمكن تعبئتها لصالح أماكن عمومية متقلصة. بالطبع، ترتبط مواقف السيارات اليوم بروتين يومي بغيض، ويُنظر إليها على أنها أسطح جافة وحارة وغير جذابة تنجم عن عملية تفكك الأحياء التقليدية. لكن يمكن التأكيد على الآفاق المرئية غير المتوقعة التي تبنيها، وآثار الماضي التي لا تزال قائمة داخل مساحاتها التي ليست خاوية تماماً. وهكذا، يكمن بصورة غير متوقعة في شبكة مواقف السيارات في بيروت، نمط من المساحات الفردية التي تنتظر فقط التحولات الملائمة والواعية لتشارك مشاركة كاملة في النسيج الحضري المعقد والغني للمدينة.
مواقف السيارات في منطقة فسوح تشكل 7 في المائة من مساحة الحي