ومن النتائج التي يتسبّب بها هذا النشاط البشري تلوّث الهواء حيث يلعب قطاعا الصناعة والطاقة دوراً هاماً، لا سيما في لبنان. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يتسبّب تلوّث الهواء في حوالى 4 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً (منظمة الصحة العالمية، 2022)، في حين قدّر البنك الدولي حصول حوالى 1800 حالة وفاة ناجمة عن تلوّث الهواء في لبنان خلال عام 2013 وتخطي تكاليف الرعاية الاجتماعية 2.5 مليار دولار أميركي للعام نفسه (البنك الدولي، 2016). تخفّض منظمة الصحة العالمية الحدود القصوى لتلوث الهواء المقبولة لمستويات التلوث الضارة بالصحة في كل استعراض تجريه ، وكان آخرها الاستعراض الذي أجرته في أيلول/سبتمبر 2021 (منظمة الصحة العالمية، 2021).
صناعة الاسمنت: هل يتعيّن علينا الإختيار بين البيئة والاقتصاد؟
تُعد صناعة الإسمنت من أبرز العناصر في قطاع التصنيع في لبنان. وإلى جانب وجودها منذ أكثر من 80 عاماً على الرغم من الحروب، تشكل عنصراً بارزاً في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
لطالما كانت مصانع الإسمنت في لبنان في نزاع مع المجتمعات المحلية المجاورة لأسباب تتعلق بالقضايا البيئية، على الرغم من أن غالبية موظفيها هم من سكان القرى المحيطة بها. تحصل مصانع الإسمنت على حصة مهمة من المواد الخام من مقالع الأحجار الواقعة بالقرب منها، وهو أمر مفيد جداً من الناحية المالية من حيث كسب الوقت وتخفيض تكاليف النقل. تتميّز هذه المواد المستخرجة بالنوعية المناسبة جداً لمنتجها النهائي، وهو ما يتجلى في النوعية الجيدة للأسمنت المنتج. ولكن كان منح التراخيص للمقالع موضع نقاش لفترة طويلة، لا سيما أن الحكومة منحت موافقة خاصة لمدة عشر سنوات في عام 1997، ولا يزال العمل جارٍ في المقالع بوجه عام منذ ذلك الحين. على سبيل المثال، توسعت أعمال التنقيب بدرجة كبيرة في منطقة شكا، فوسّعت الجماعات المحلية نطاق أعمالها وسرّعت وتيرة العرائض والمؤتمرات الصحفية والمقالات في الصحف والإعتصامات وما إلى ذلك، وحتى أنها اتصلت بالعديد من المسؤولين الحكوميين ووجهت رسائل مفتوحة إليهم. ولكن حتى الآن، لم يتم حل المشاكل المتعلقة بتقسيم المناطق وتصنيفها عملياً. لذلك، يمكن القول أن المسألة في شكا معقدة للغاية.
أجريت أعمال إعادة تأهيل محدودة للغاية في المقالع في لبنان، مما أسفر عن تلوّث الهواء من غبار المقالع الغير مؤهّلة التي تحمله الرياح وتنشره في المجتمعات المحلية المجاورة. وقبل أشهر قليلة، أبدت شركات الأسمنت اهتماماً أكبر بالعمل على إعادة التأهيل بعد الضغط الذي مارسته الحكومة السابقة.
من ناحية أخرى، إنخفضت الإنبعاثات من عملية إنتاج الأسمنت على مرّ السنوات. كما تُستخدم أفضل الأساليب التكنولوجية لالتقاط انبعاثات جزيئات الغبار من المداخن العالية في المصانع والملوثات الأخرى مثل المعادن الثقيلة التي تعادل انبعاثاتها مثيلاتها الأوروبية، في حين لا تزال انبعاثات الملوثات مثل أكاسيد النيتروجين عالية نسبياً على الرغم من امتثالها للأنظمة اللبنانية التي هي بدورها قديمة جداً وعفا عليها الزمن.
بوجه عام، تعتبر صناعة الإسمنت صناعة مستهلِكة للطاقة بقدر كبير، حيث يشكل الوقود والكهرباء النوعين الرئيسيين للطاقة المستخدمة في صناعة الإسمنت.
الكهرباء في لبنان: قطاع مُهلِك في ظل الظروف الحالية؟
التكنولوجيا المستخدمة في توليد الطاقة في مصانع الإسمنت في لبنان هي نفسها المستخدمة في تزويد عامة الناس بالطاقة في الأحياء السكنية، وتعتمد على المحركات الترددية المعروفة أيضاً باسم مولدات الديزل/المازوت. تستخدم هذه التكنولوجيا أيضاً من قبل شركة كهرباء لبنان في اثنتين من محطاتها لتوليد الطاقة وفي البواخر المستخدمة سابقاً لتوليد الطاقة، وكذلك في بعض مصانع الإسمنت. مع تزويد شركة كهرباء لبنان بالطاقة ما بين ساعتين و أربع ساعات يومياً خلال الأزمة الاقتصادية الحالية، وبخاصة في عام 2021، إزدهرت سوق المولدات الكهربائية بشكل ملحوظ وزادت ساعات تشغيلها لسدّ النقص في الطاقة. غير أن أصحاب المولدات رفضوا سدّ النقص في الطاقة الذي تسببت به شركة كهرباء لبنان في الظروف الحالية بشكل كامل، حيث ادعوا عدم التوصل إلى تسوية عادلة مع وزارة الطاقة والمياه في شأن سعر وحدة الكهرباء. وطالت العواقب اليومية كذلك، الأمن الغذائي والأمن القومي والتعليم وما إلى ذلك. على المستوى الوطني، تجاوزت انبعاثات بعض الملوثات من المولدات انبعاثات محطات توليد الطاقة وذلك منذ عام 2012. وتشمل ملوّثات المولدات أكثر من مائة مركب كيميائي، الكثير منها مسرطنة وتؤدي إلى زيادة مخاطر الإصابة بالسرطان، وبالتالي سيكون تأثيرها ملموساً على امتداد سنوات طويلة في المستقبل. وتجاوزت انبعاثات ملوّثات الهواء من إنتاج المولدات للطاقة الضعف خلال عام 2021 مقارنة بعام 2019، قبل بدء الأزمة مباشرة. ومن خصائص مداخن المولدات في لبنان أنها قصيرة بوجه عام، مما ينشر الملوثات بكميات كبيرة في الشارع ويفضي بالتالي إلى تعرض السكان لها على نحو مفرط. عندما تكون المداخن أطول، يعاني الأشخاص المقيمون في الطوابق العليا من روائح العوادم والغبار، في حين أن هذه المداخن نادراً ما ترتفع بما فيه الكفاية فوق المباني كي لا تسبّب الإزعاج للناس. في أغلب الأحيان، تكون المولدات مزوّدة فقط بكاتم للصوت، فيما قسم صغير منها مجهّز بفلتر للغبار لا يكون الأنسب بوجه عام. وهناك عدد قليل للغاية منها مجهز ببعض فلترات الغبار المناسبة. وأدى ارتفاع المداخن إلى دخول العديد من الأشخاص المقيمين في المدن اللبنانية المكتظة إلى غرف الطوارئ، لا سيما عندما يدخل دخان المولدات إلى الشقق من خلال النوافذ. كما يشتكي الكثير من الناس من الإزعاج الناجم عما يرونه على شكل غبار أسود أو رائحة - وحتى ما يسمعونه على مستويات عالية من الضوضاء - مما يؤثر على راحتهم، حتى في الطوابق العليا، لا سيما في المدن. بوجه عام، يتقدم المواطنون بالشكاوى إلى البلديات أو وزارة البيئة التي تزور الموقع وتطلب من صاحب المولد إجراء بعض الاختبارات والتحقق من الامتثال للأنظمة الحالية، ليتبيّن أن عدداً قليلاً فقط من المولدات ممتثل. تكمن المشكلة دائماً في التأثير على الصحة الناتج عن مصادر الانبعاثات الهوائية في شكلها الحالي، لا سيما مع تفاقم أزمة الكهرباء والاستخدام المفرط لمولدات الطاقة، حيث من المتوقع أن يزداد التأثير على الصحة إلى حد كبير.
هل توجد أنظمة؟
تبقى مسألة إنفاذ القانون الخطوة الحاسمة في النظام برمته. فمن ناحية، الأنظمة البيئية موجودة وقابلة للتطبيق، ولكن المرعية الإجراء قديمة من ناحية أخرى. لقد أصبحت هذه الأنظمة الصادرة في عام 2001 قديمة في الوقت الحاضر، في حين أن الأنظمة العالمية أكثر تشدداً بكثير والتكنولوجيا المستخدمة متقدمة جداً. في بعض الحالات، تكون انبعاثات بعض الملوثات من مصانع الإسمنت العاملة أقل بكثير مما هو مسموح وفقاً للأنظمة المطبقة حالياً، ولكن من ناحية أخرى لا يتم رصد انبعاثات المقالع والإبلاغ عنها بالشكل الصحيح. يتم رصد انبعاثات المولدات بانتظام فقط في ما يخص الصناعات الرئيسية مثل الأسمنت، ولكن فقط بناءً على شكاوى مرتبطة بالمولدات في الأحياء التي لا تمتثل بوجه عام للأنظمة المحلية الحالية. لا بد من إجراء تقييمات امتثال كاملة، ولكن يجب أولاً إجراء جردة للمولدات. وفي هذا الإطار، بذلت وزارة الاقتصاد منذ بضع سنوات جهداً لإنشاء قاعدة بيانات لجميع المولدات على المستوى الوطني، لكن المبادرة لم تكتمل. من ناحية أخرى، نشرت وزارة البيئة القيم الحدّية المحدّثة المتعلقة بالانبعاثات الهوائية في الجريدة الرسمية (قرار رقم 16/1 تاريخ 10 شباط 2022) التي سوف يُعمل بها إبتداءً من 10 شباط 2023. على الأقل سيضمن ذلك تحقيق عتبات للإنبعاثات تتماشى مع المعايير الدولية. في ظل الأزمة الحالية والواقع الجديد في الوزارات، فإن مطالبة البلديات بلعب دورها الأساسي كسلطات محلية وكذراع تنفيذية للوزارات على المستوى المحلي أصبحت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.
قدمت هذه الأمثلة لمحة عن المشاكل التي نواجهها يومياً، ولن يُحرَز أي تقدم من دون خطة مطبّقة بصورة فعّالة وإنفاذ القانون.
المراجع:
- منظمة الصحة العالمية (2022). تلوّث الهواء. تمّ الدخول إلى الموقع في 18 كانون الأول/ديسمبر 2021.
https://www.who.int/health-topics/air-pollution#tab=tab_2
- منظمة الصحة العالمية (2021). المبادئ التوجيهية لمنظمة الصحة العالمية في شأن نوعية الهواء في العالم: الجسيمات (من الفئة 2.5 والفئة 10)، والأوزون، وثاني أوكسيد النيتروجين، وثاني أوكسيد الكبريت، وأول أوكسيد الكربون. منظمة الصحة العالمية. تم الدخول إلى الموقع في 18 كانون الأول/ديسمبر 2021.
https://apps.who.int/iris/handle/10665/345329
- البنك الدولي (2016). تكلفة تلوّث الهواء، تعزيز المبررات الاقتصادية للحد من تلوّث الهواء.