الحياة في طرابلس: مدينة الخبز والملح

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 15 8 دقائق للقراءة
الحياة في طرابلس: مدينة الخبز والملح
© صياد يصلح شباكه في المينا، الصورة من الكتاب الذي أصدرته جامعة البلمند في العام 2011 بعنوان "طرابلس، مدينة كل العصور"
منذ البدء، كانت طرابلس مدينة مفتوحة على البحر. والبحر حمّال وجوه وجاليّات إلى الشاطئ، ومن المنطقي، إذاً، أن ترتبط هذه المدينة البحرية، على مرّ تاريخها المديد، بالوظيفة التي بُنيت لأجلها. من هنا تنوّعت فيهــا المجموعات السـكنيـة، عبر التـاريخ، من كنعـانيين وفرس وإغريق وسلوقيـين وقبائل عربية وافدة من إقليم حوران وغيره في سوريا.
كانت طرابلس1 تتألف من ثلاثة أحياء: حي الصوريين وحي الصيداويين وحي الأرواديين. من هنا نرى عائلات كبيرة لُقّبت بأسماء «الصوري» و«الصيداوي» و«الأروادي»2، وتنتمي إلى جماعات دينية متنوّعة، وهذا يبرّر الاسم الذي اشتقّ من علاقة الترابط والتفاعل بين المدن الفينيقية الثلاث التي شاركت في تأسيسها3.
من هنا، سنتناول في هذه العجالة صوراً عن مسرى الحياة الواحدة للنسيج الأهلي في مدينة الميناء، طرابلس التاريخية، كصورة عن نمط حياة أهل الفيحاء في تَوادّ ووئام من خلال تظهير أصالة الميناء، كما طرابلس، المتجذّرة في بساطة عيش ناسها، وفي انفتاحهم على الآخر، وفي تآلفهم، وفي قدرتهم على العطاء بغير مقابل.
ولتأكيد انفتاح الفيحاء على البنية الديموغرافية المستجدة، نشير إلى أنّ عدد سكان الميناء كان 13400 نسمة في عام 1932 (الإحصاء الرسمي الأوّل والأخير) بعدما كان 8535 نسمة في عام 1913. وقد ساهم في هذه الزيادة لسكان الميناء، ما وفد إليها من مهاجرين في تلك الفترة واستقروا فيها، كأهل جزيرة كريت والأرمن واليونانيين وغيرهم4. وهذا التراكم السكاني الوافد أكد سمة المدينة البحريّة المنفتحة، وقد برز بوضوح التزايد المطّرد لعدد الساكنين في الميناء نسبة إلى عدد المسجّلين في سجلاتها، كما أنّ فترة الحرب التي امتدت من عام 1976 إلى عام 1989 ساهمت في الزيادة الديموغرافية، حيث ارتفعت نسبة سكان الميناء نحو 43 بالمئة5 بعدما قدم أبناؤها صورة حضاريّة عن رقيّهم، وانفتاحهم وقبولهم بالآخر المختلف عنهم، وأبرزوا مدينتهم كمدينة سكنيّة جاذبة وهادئة بامتياز.
هذا الثقل السكني الجديد لم يمنع تعمّق الناس في السكن أكثر في المنطقة القديمة حيث النسيج الأهلي الميناوي المتنوّع بعفويته على طول هذا الحي الاقتصادي، والذي يجتمع فيه الناس صباحاً للتبضّع وتوفير الحاجات الضرورية.
وقد رفع مجلس بلدية الميناء عام 2009 التخطيط عن أكثر من 500 عقار قديم6 كي تبقى هويتها سالكة في الداخل بين أبناء المجتمع البحري الواحد، لتكون هذه المنطقة الرئة التي تتنفس بها المنطقة الغربية التي نشأت بعدما شُقّ شارعا «بور سعيد» و«مار الياس»، في عام 1954، الميناء إلى قسمين: قسم داخلي باتجاه لقمة العيش البحريّة، وآخر باتجاه المقلب الغربي حيث البنايات الجديدة.
من هنا، نرى إنسان المدينة القديمة ملتصقاً بالأزقّة الداخليّة ومكتفياً بها، فبنى مساجده وكنائسه7 ومقابره (قبل أن تنتقل في عام 1875 إلى منطقتها الحالية لتبقى التسمية على الساحتين الرئيستين: ترب8 الاسلام وترب المسيحية9). وهذا الاكتفاء ولّد التعاون الأهلي والتعاضد والتناصر حتى ساد القول السائر: «ابن مينتي». فترى المسيحيين يتبرعون مالياً لبناء مسجد عمر بن الخطاب10 كما ورد في دفتر التبرعات الصادر عن لجنة بناء الجامع في الستينيات11، وترى المسلمين يسهمون يدوياً في ترميم الكنائس، كما جرى في بناء كنيسة النبي الياس، زمن الاقتتال الأهلي في جبل لبنان عام 1861، بعد عاصفة بحريّة كادت تودي بحياتهم12، ولعل هذا التكاتف هو وليد ملح البحر والسعي المشترك لاصطياد لقمة العيش من قاعه.
ثمّ إنّ المجتمع الميناوي الأصيل هو حرفيّ يدوي عتيق، هو الذي صنع الحجر الرملي، واشتغل بالكلس لدهان الحيطان، وصنّع أدوات البناء بمهارة. ولعلّ ذاكرة أبناء الميناء العتيقة وأرشيفها يبيّنان مهارة اليد الشعبية المتعاونة التي اشتغلت ببناء المساجد والكنائس، وفق الأساليب العمرانية القديمة كبناء القناطر وحجارة الزوايا وغيرها ، فها هو كبير البنّائين (شيخ المعمرجيّة) انطون الكيك، (1885-1981)13 وهو لقب موثّق14 من رئيس بلدية الميناء عبد الستار علم الدين في الثلاثينيات15، يبني الجزء المزيد على مئذنة الجامع الحميدي16، وها هو المعلم جرجس توما (1882 - 1933)17 وعماله يشتغلون في جامع الأيوبيين18 في الثلاثينيات في الحارة الجديدة. وهذا التلاقح العمراني انسحب على واجهة هيكل كنيسة مار جرجس المبنية عام 1735 حيث يبرز الفن الهندسي المملوكي عبر لعبة الرخام باللونين الأبيض والأسود.
هذا وقد اعتمد المهندسون المسلمون الكبار ومنهم مثلاً زهدي عبس19 (1911-1997) ومصباح حولا20 ( 1888-1972) على اليد العاملة الماهرة من أبناء الميناء في الحنيات الأثريّة والبناء فوق الحجر الرمليّ الذي كان سائداً في بناء البيوت الميناويّة القديمة.
ومن مداواة الحجر إلى مداواة البشر يظهر في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، طبيب شعبي يلتفّ حوله أبناء الميناء بمختلف شرائحهم، يداوي فقراءهم ويبلسم الجراح، هو الطبيب يعقوب لبان (1887 - 1968)21 الذي خرجت المدينة، بشبابها وشيبها، في وداعه، وأصرّ أهلها على تكريمه لخدمته التي لم تميّز بين الناس، فجمعوا التبرعات وأقاموا له تمثالاً في عام 1971، اختفى زمن الحرب الأهلية ليعود إلى مكانه لاحقاً باحتفال رعاه رئيس الجمهورية، وشارك فيه أهالي الميناء كلّهم22. هذا التراث وهذا التاريخ التكاملي بين أبناء النسيج الأهلي هو الذي أبقى مدينة الميناء - ما عدا بعض الحوادث - واحة سلام ومحبة طيلة أيام المحنة اللبنانية.
وقد توطّدت هذه العلاقة بالعمل اليومي الذي يعرف الوجوه والأسماء. فأهل المدينة البحرية يعرفون بعضهم بعضاً، ، يفرحون معاً، ويتألمون معاً، لأنَّ المجتمع البحريّ هو مجتمع ضيّق، والمقاهي البحريّة تستقبل الصيادين يوميّاً، فهذه مجالس عاديّة وتقليديّة، بعد العودة من رحلة متعبة، حيث يملأ البحر عيونهم أحلاماً ومشاريع... وخوفاً من الغد.
من هذا البحر الزاخر بالعلم والآراء يأتي الشهيد الشيخ صبحي الصّالح23 ليسأل خادم رعيّة الميناء المطران الحالي جورج خضر عن رأيه في مخطوطه حول النّظم الاسلاميّة، قبل أن يدفع به إلى الطبع24. كما أن المرحوم المفتي الشيخ منير الملك25 كتب مخطوطاً في تاريخ الأيام وزمانها، مشيراً إلى المناسبات المسيحيّة انعكاساً لواقع علاقاته المميّزة مع أهل مينائه26، على اختلاف معتقداتهم لأنَّه كان مرجعاً حقيقيّاً لهم. هذه العلاقات، كانت تقوم على احترام الإيمان المتبادل: فعن دور مدرسة مار الياس التي تأسست عام 1900، يقول الشيخ ناصر الصالح: «كان مدير المدرسة مكاريوس موسى (مدير مدرسة مار الياس من عام 1933 إلى عام 1957 – توفي عام 1964)27 يؤمّن للتلاميذ المسلمين أداء صلاة الجمعة، في «مسجد الميناء الكبير»، فيصحبهم بنفسه أو يرسل معهم أحد المدرسين وكان كلّ طلبة صفّنا يحضرون درس الدين، من دون حرج، وكان مدرس الدين يومئذٍ الأب جورج خضر»28. وماذا نقول عن وفد كنيسة الأرمن الأرثوذكس في الشمال، وغالبية أبنائها الساحقة من الميناء، والذي أعلن أثناء زيارته لتهنئة مفتي طرابلس الجديد سماحة الشيخ مالك الشّعار29: «أنّ لا مطران لنا في طرابلس، ولتكن سماحتك مشرفاً على شؤوننا لثقتنا بك وبنهجك وأسلوبك». وكي لا يبقى هذا الموقف بروتوكولياً، أعلن الوفد الأرمني ذلك أمام الصحف ووسائل الإعلام30. واستطراداً لهذه الصور من العيش الواحد في الميناء، نلاحظ في صورة تعود إلى العهد العثماني وتضم نخبة من أعيان المدينة وقادتها، منهم ابراهيم حبيب (8 تشرين الثاني 1947)31 في الصف الأول، وعلى صدره إشارة الصليب تبدو بشكل علني، على لباسه الرسمي32، من دون أن يثير حفيظة أحد.
هذه هي الميناء تعيش يومياتها بعفوية، وتسبق عصر ما اصطلح على تسميته بعصر «حوار الحضارات»، وفي لفظ آخر «صراع الحضارات».
 

© فن تبييض النحاس، الصورة من الكتاب الذي أصدرته جامعة البلمند في العام 2011 بعنوان «طرابلس، مدينة كل العصور»



1 -مدينة تشكّل، مع طرابلس البلدة، إلى جانب البداوي والقلمون «قضاء طرابلس» . غيّر المجلس البلدي اسمها من «الأسكلة» إلى « الميناء» بالقانون رقم 9/79 الذي وقّعه رئيس الجمهورية في 21 كانون الأول 1979، ومن «قرية» إلى «مدينة» عام 1996، بقانون رقم 507 نشرته الجريدة الرسمية في العدد 24 تاريخ 13 حزيران 1996.
2 - عبد الغني عماد: انتخابات بلدية الميناء 1998، دراسة سوسيولوجية مقارنة. طرابلس، دار الإنشاء، 2004، ص40 و41.
3 -يوسف كفروني، المدينة العربية. معهد العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية، مركز الابحاث في الجامعة، 2008، ص 106
4 - أنطون نعوم: الميناء في ذاكرة الغد. اللجنة العلمية لتطوير الميناء- دار الانشاء-2001 ص:73
5 - حكمت شريف: تاريخ طرابلس الشام من أقدم زمانـها إلى هذه الأيام،1323 هـ، 236 صفحة (مخطوط)، طبع وصدر عن دار الايمان ودار حكمت الشريف، طرابلس 73
6 - المرسوم رقم 665 تاريخ 7 تشرين الثاني 2008.
7 - الجامع العالي، جامع الحميدي، جامع غازي.. كاتدرائية مار جاورجيوس، وكنيسة سيدة النجاة...
8 - جمع التُّربة : التراب والقبر والمقبرة.( محيط المحيط، باب ترب).
9 -جان توما: الأرثوذكس بشراً وحجراً في الميناء، دار الكلمة، 1997 ، ص16
10 - هو جامع الداكيز (عمر بن الخطاب)، بناه أحد افراد عائلة الداكيز، خلال العهد العثماني. وبعد هدمه خلال أحداث عام 1958، مع برج السرايا، أعيد بناؤه عام 1967، واطلق عليه اسم «جامع عمر بن الخطاب. (الميناء: مدينة البحر تروي قصتها! مطبعة ماب- طرابلس2000، ص39).
11 - بيان بالتبرعات والمصاريف لبناء جامع عمر بن الخطاب- 1969م -1389 هـ.
12 - جان توما: الأرثوذكس بشراً وحجراً، ص 80.
13 - من إخراج قيده العائلي.
14 - من أرشيف بلدية الميناء العام 1934.
15 - مواليد عام 1849، كان رئيساً لبلدية الميناء (1932 - 1934). عُمّر طويلاً. توفّي عام 1964.
16 - بُني عام 1902 على أنقاض أول مدرسة رسمية أنشأها الأتراك في الميناء ( عبدالله كبارة، ص 39).
17 - من إخراج قيده العائلي.
18 - جامع الحارة الجديدة، بناه أحمد بن أحمد حسن المير الأيوبي العام 1930. (عبدالله كبارة، ، ص 39).
19 - تخرّج مهندساً من جامعة اسطنبول عام 1911( أرشيف نقابة المهندسين – طرابلس).
20 - تخرّج من المعهد الهندسي في لبنان (أرشيف نقابة المهندسين – طرابلس).
21 - من الشاهدة المرفوعة عند تمثاله في الساحة المعروفة باسمه.
22 - جريدة «النهار»، 21 حزيران 1996.
23 - ولد في الميناء عام 1926، نال من الأزهر إجازة من كلية أصول الدين عام 1947، والدكتوراه عام 1949، ونال إجازة في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1950. غادر إلى باريس ونال من السوربون دكتوراه في الآداب مع أطروحتين. عاد إلى طرابلس عام 1954 مؤلّفاً وباحثاً. اغتيل في بيروت في 7 تشرين الأول 1986.(أحمد الجنابي، الشيخ الشهيد الدكتور صبحي الصالح وجهوده اللغوية. بحث لجامعة الجنان، 2001، ص 5).
24 - جورج خضر: الميناء في ذاكرة الغد، ص 34.
25 - مواليد طرابلس عام 1884، تولّى الإمامة والتّدريس في الجامع العالي الكبير في الميناء زهاء ثلث قرن، كما استلم توقيت الميناء. ثم مركز الافتاء بطرابلس من عام 1944 إلى عام 1947. توفي عام 1947.
26 - مخطوطة بخطّ يده .
27 - جان توما، الأرثوذكس، ص 167.
28 - الشيخ ناصر الصالح ، الميناء في ذاكرة الغد، ص 39.
29 - انتخب مفتياً على طرابلس والشمال في 27 كانون الثاني 2008.
30 - جريدة «المستقبل» عدد 16/4/2008.
31 - من سجلات المتوفين في كنيسة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية- الميناء.
32 - الصورة معلّقة في قاعة مكتبة بلدية الميناء.
A+
A-
share
آذار 2015
أنظر أيضا
01 آذار 2015
01 آذار 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد