إنّ هدير المولّدات هو مرافق دائم للحياة في لبنان. هو جزءٌ من المشاهد الصوتيّة اليوميّة التي تجعل الحياة - بالمعنى الحرفي للكلمة - ممكنة لسكان البلاد، وسط عدم كفاءة الدولة في تزويد السكان بإمدادات كافية من الطاقة. فتضطرّ الأسر والشركات إلى الحصول على الكهرباء من أماكن أخرى والإستعانة بمقدّمي الخدمات غير الرسميين (الإشتراك) بغية مواصلة أعمالها اليومية. وتترك هذه الأصوات أثراً مرئياً عبر البيئة المبنيّة في البلاد أيضاً، حيث تتشابك في فوضى الأسلاك التي تمتدّ عبر الأحياء وتُعلَّق بين المباني. على الرغم من أنّ المشاهد والأصوات هي تذكير مادي بإهمال الدولة، والإعتماد على البنى التحتية غير الرسمية، وأساليب التكيّف القسرية؛ فإنها غالباً ما تختفي في الخلفية، ويتمّ تطبيعها أو إضفاء الطابع الرومانسي عليها كجزء من البيئة المعيشية التي تجعل لبنان فريداً من نوعه.
خلال العامَين الماضيَيْن، شهدت البلاد إضطرابات إجتماعية وسياسية وإقتصادية لم يسبق لها مثيل. إنتفاضةٌ على صعيد الوطن في عام 2019؛ جائحةٌ عالمية؛ إنخفاضٌ حادّ لقيمة العملة المحليّة؛ إنفجارٌ شبيه بالإنفجار النووي دمّر نصف بيروت وأودى بحياة مئات الأشخاص؛ صراعاتٌ سياسية مستمرّة على السلطة؛ وحالاتُ انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد التي أعادت تركيز المناقشات حول الفساد وسوء إدارة الطاقة في الخطاب العام. وقد أدّت هذه الحقائق مجتمعة إلى إبطاء القدرة الجماعية للبلاد على تصوّر مستقبل بديل. وبدلاً من ذلك، تطغى على الشواغل الطويلة الأجل الحاجة الملحّة إلى البقاء، وتلبية الإحتياجات الأساسية في خضمّ الإرتفاع المستمرّ لتكاليف المعيشة. ماذا يعني أن يعيش بلد في الظلام لأيام متتالية؟ ماذا يعني أن تكون تحت رحمة الهياكل غير الرسمية لتوفير الإحتياجات اليومية من الطاقة؟ كيف تخطّط ليومك في خلال انقطاع التيار الكهربائي المجدول؟ أين تخصّص مساحة للراحة عندما يعكس المشهد الصوتي للمدينة سوء الإدارة المزمن للنخبة الحاكمة؟ في حين لا توجد إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة، من الضروري التفكير في عمقها وآثارها؛ والنأي بمنظورنا عن المجاز الإختزالي للمرونة، وإظهار أنّ العمل في إدارة هذه الصراعات اليومية له جذور حقيقية وملموسة للغاية.
مصدر قلق تاريخي
على مدى السنوات الثلاثين الماضية، أصبحت أزمة الكهرباء في لبنان والإعتماد على مقدّمي الخدمات غير الرسميين مرادفَيْن للفساد وعدم كفاءة الطبقة الحاكمة في فترة ما بعد الحرب. بيد أن هذه المسائل تعود إلى ما قبل الحرب الأهلية. في مقال نشرته مجلة جدليّة عام 2014، يستعرض المؤرّخ زياد أبو الريش الأسس المتنازع عليها لشركة الكهرباء الوطنية "مؤسسة كهرباء لبنان". لقد تأسّست الشركة لأوّل مرّة في ظلّ الحكم العثماني، وشهدت العديد من التغييرات في أعقاب الحرب العالمية الأولى - بالإسم والدور والملكيّة - من كونها تحت الإنتداب الاستعماري الفرنسي في عام 1925 إلى أن أصبحت شركة مؤمّمة في عام 1954.
إنّ الخيط المشترك الذي يعبر هذه التحوّلات هو الخدمات غير الكافية باستمرار التي كانت تقدّمها شركة كهرباء بيروت (EDB)حينها، لا سيما مع زيادة الطلب المنزلي والتجاري على الكهرباء بمرور الوقت. كانت الأسعار مرتفعة، والتوتّر الكهربائي غير مستقرّ، وإنقطاع التيار الكهربائي شائعاً، وظروف العمل سيئة، ممّا أدّى إلى إحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد بين عامي 1951 و1952 والتي جعلت الكهرباء شاغلاً وطنياً وعاماً. وبدلاً من التحسّن مع مرور الوقت، إستمرّت هذه الظروف حتّى يومنا هذا. ووفقاً لأبو الريش، أدّى تأميم شركة كهرباء بيروت في عام 1954 إلى إنشاء كيان منفصل داخل وزارة الأشغال العامة كان مسؤولاً عن صيانة مرافق الشركة الأولى. والأهمّ من ذلك، كان هذا الترتيب السلف المؤسّساتي لمؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة والمياه الحاليتين، ممّا يدلّ على وجود تداخل معقّد بين مختلف الهيئات الحكومية وشبكة من المصالح السياسية المتنافسة.
البنى التحتية اليومية والإنتماء
لقد أنتج النقص المستمرّ في الطاقة في مختلف أنحاء لبنان استراتيجيات تكيّف غير رسمية مختلفة على المستوى الخاص وعلى مستوى الأحياء، الأمر الذي أدّى إلى تغيير المشهد الحضري في لبنان. ففي بعض الحالات، تكون مولّدات المازوت الخاصّة مملوكة وإدارتها مشتركة من قبل سكان المبنى، وتقع بالقرب من المنطقة المحيطة بالمبنى أو داخلها. وبشكلٍ أكثر شيوعاً، سوف تجدون خدمات إشتراك غير رسمية في الأحياء (الإشتراك)، غالباً ما تديرها مجموعات إما تابعة للأحزاب السياسية الطائفية أو تعتمد عليها للحفاظ على عملياتها. وعلى الرغم من أنها غير قانونية رسمياً، فقد تمّ قبول البنية التحتية للأشتراك وإضفاء الشرعية عليها كجزء من الحياة اليومية في ظلّ النقص المزمن في الطاقة من خلال جهود الدولة الرامية إلى تنظيم التعريفات الجمركية وتوحيد المعدّلات.
ومع ذلك، فإنّ عدم المساواة في الإتصال ومعدّلات الإشتراك وخدمة العملاء أمرٌ شائع، ممّا يخلق مشهداً مشحوناً بالطاقة يتقاطع مع خطوط الصدع الطائفية. وينتج من هذا خطاب السلطة الذي يعزّز الإنتماء الطائفي والسياسي في مواجهة المطالب الجماعية لتحسين خدمات الكهرباء، ممّا يحصر الإهتمام، الذي من المفروض أنّه مشترك، في نطاق الفرد أو الحيّ. علاوةً على ذلك، تؤدّي هذه اللامساواة إلى تجزئة تجاربنا في المدينة، حيث تغرق بعض المناطق في الظلام بينما يتلألأ البعض الآخر في النور؛ وحيث تتمتّع بعض الأحياء بالبنية التحتية الكهربائية اللازمة لتصبح مراكزسياحية بينما يبقى البعض الآخر متخلّفاً. وفي هذه المناطق الجغرافية المتصدّعة تتجلّى التشابكات بين الحقائق الحيّة والمبنيّة بشكلٍ أكثر وضوحاً.
الأزمة المستمرّة
لقد أدّى إندلاع الأزمة الإقتصادية والمالية الأخيرة إلى تعقيد الوضع أكثر. وفي ظلّ ضعف العملة المحليّة، وتزايد الديون الوطنية، والإعتماد المزمن على الواردات؛ لا تستطيع الدولة اللبنانية إستيراد الوقود اللازم لتشغيل شبكات الكهرباء الرسمية وغير الرسمية على حدّ سواء. بدلاً من ذلك، وعلى غرار معظم السلع في الوقت الراهن، تمّ تحويل المازوت إلى السوق السوداء الموازية، وتمّ شراؤه وبيعه بأسعار باهظة. ويستطيع مقدّمو خدمات الإشتراك غير الرسميين الذين لديهم الوسائل المالية والسياسية شراء الوقود، ولكن هذا يترجم إلى رسوم إشتراك مرتفعة بشكلٍ إبتزازي لم يعد بمقدور معظم الأسر والمؤسسات أن تتحمّلها. ففي غياب الإمداد الكافي من الوقود والكهرباء، تتوقّف الحياة في حالةٍ من الشلل، حيث لا تتوفّر شبكة "الواي فاي" (WIFI) للتعلّم عبر الإنترنت أو العمل عن بُعد؛ ولا يمكن تخزين الثلاجات مسبقاً؛ ولا يمكن تشغيل المصاعد؛ ويتوقّف جمع النفايات حيث يقوم العمّال بالبحث عن الوقود لملء شاحناتهم؛ ولا تملك شركات المياه الرئيسية ما يكفي من الوقود لإمداد المنازل والشركات... وإنّ قائمة المشقّات - على المستويين الجزئي والكلّي - تتراكم.
وبالنسبة إلى العديد من سكان لبنان، تطلّب الوضع الحالي أساليب جديدة للتكيّف، والأمثلة وفيرة. وهي تأتي بدون ترتيب معيّن للأولوية أو عدم الراحة: شراء وحدات إمداد متواصل بالطاقة (UPS) - على الأرجح في السوق السوداء - لضمان إستمرار العمل والتعلّم عن بُعد؛ اللجوء إلى خدمات إشتراك متعدّدة للحفاظ على إنقطاع التيار الكهربائي إلى أدنى حدٍّ ممكن؛ الإنتقال من مقهى إلى آخر بحثاً عن إتصال "واي فاي" مستقرّ، من دون جدوى في كثير من الأحيان؛ إعادة توجيه الجداول اليومية وإعادة جدولة المهام لضمان وجود الكهرباء عند وصولك إلى المنزل... إنّ تكلفة الفرصة المتاحة جرّاء هذه التعديلات اليومية ثقيلة. إنها ملموسة، ويشعر بها الجسم والعقل، وهي تقاس بالوقت الضائع.
بصيصُ فرج؟
يعرف الضجيج بأنه صوت غير مرغوب فيه، ولكن في حالة لبنان نسأل "غير مرغوب فيه لمن ومِن قِبل مَن"؟ فحتى عندما كان انقطاع التيار الكهربائي يؤثّر على معظم أنحاء البلاد، ظلّ هدير المولّدات الكهربائية ونشازها الحضري حيّاً في أذهان الناس، وهو تشتيت مستنفِد ومستمرّ يشير إلى مشاكل نظامية أعمق. هل من الممكن تصوّر مستقبل بديل في ظلّ تهديد الظلام الدامس، مستقبل تكون فيه البيئات الحضرية والطبيعية متناغمة وليست متعارضة؟ هل من الممكن تخيّل مستقبل خارج عن المولّدات، مستقبل مبنيّ على حلول جماعية وبعيد عن الوضع السياسي الراهن؟ إنّه لإمتياز أن نستمتع بأفكار كهذه، لكن إمكانيّتها - مهما كانت ضئيلة - تعكس صوت الأمل الخافت.