مركزية النقل في لبنان: أخطبوط بيروت مبتور الأطراف ومجرّات مناطقية

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 04 آب 23 بقلم جودي الأسمر، صحافية 8 دقائق للقراءة
مركزية النقل في لبنان: أخطبوط بيروت مبتور الأطراف ومجرّات مناطقية

"أحببتُ طرابلس حين زرتها، بقدر ما لا أحب إلى أي حد هي بعيدة. ولنفس السبب لم أزر صور سوى مرة في حياتي"، هكذا تلخص كارلا مشعلاني، من زحلة، تنقلاتها إلى المناطق. تستدرك "قد لا تكون هذه المناطق بعيدة ولكنه تصوّرنا عنها، لأنّ الوصول إليها صعب. وكلفة المواصلات الباهظة زادت الطين بلّة، أضيفي أنّ دفاتر القيادة لا تصدر لمن استطاع منا امتلاك سيارة، نحن الجيل الصاعد الذين ظلمتنا الأزمة. نجهل كيف يعيش جارنا في"المجرة" اللبنانية القريبة".

وتحاصر الشابة التي نزحت إلى بيروت للعمل والدراسة ما تصفها بـ"معاناة" تتجاوز ترف السياحة الداخلية، بحيث أصبحت الإشكالية: كيف أتنقل لرؤية أهلي في زحلة؟

في الواقع، "لا سبيل سوى بالفانات، أستقلها من الشياح"، مستغربة غياب باصات تربط بيروت بزحلة، "لقد تعرضت لثلاثة حوادث سير بسبب تهوّر بعض سائقي الفانات"، ولا حدّ لهذه المخاطر لأنّها "لا تشترط كفاءة السائق ولا تؤمن للركاب"، علماً أنّها بحلول نيسان 2023،  تتقاضى تعرفة تصل إلى 300 ألف ليرة  ما يعادل تعرفة راكب على خط طرابلس-بيروت ضمن باصات فاخرة ومؤمنة.

من جهتها، تداوم سهى حلاب ورفاقها في "الجمعية اللبنانية للقراء" على تنظيم حلقات لمناقشة الكتب وتشجيع المؤلفين الشباب. تخبرنا أن النادي نجح في تكوين قاعدة من القراء الدائمين في بيروت، لكن يتعذر عليهم بلوغ غاية أخرى أساسية "كسر العزلة الثقافية بين المناطق والتحرر من مركزية العاصمة"، فـ"أصدقاؤنا في بيروت لم يستطيعوا الالتحاق بنشاطات المناطق. يستبقون صعوبة النقل بسؤال: هل المواصلات مؤمنة؟". وتشرح "خلال تنظيمنا نشاطاً في صور، لاحظنا إمكانية الانطلاق من بيروت إلى صيدا بباصات مريحة، ولكن الانتقال من صيدا إلى صور محصور بـ"الفانات"، وكانت عودتنا في المساء، فصرف كثيرون النظر عن المشاركة. وبالنتيجة، لا يحضر الأنشطة في المناطق سوى أهالي المناطق". 

والحال، قلة من اللبنانيين لم يسمعوا أو يقرؤوا في البلد رائع الجمال وصغير المساحة،  المعتقد القائل "تزور لبنان كلّه في يوم واحد"، و"في نصف ساعة تنتقل من البحر إلى الجبل"، فيما كثير من اللبنانيين اختبروا عكس هذا المعتقد؛ فقد يثبت صحته لمن يمتلكون سيارات خاصة، يسخرونها طوع تنقلاتهم، ويستطيعون الوفاء بمصاريفها، فيما تبدو هذه المعادلة "خرافة" لمن لا يملكون السيارات، كما لا تعوّضهم خدمات كفوءة للنقل العمومي. 

وفي بلدٍ لا يوازن في تنمية المناطق، لا تستثني المركزية البيروتية النقل: ستلفتك حين تهبط شيئاً فشيئاً من التلال الشرقية، سحابة صفراء عملاقة من الانبعاثات السامة التي تطبق على وجه المدينة المرتبك والمشوه بالاكتظاظ الخرساني، وفوضاه المتشابكة والمسترسلة نحو الامتداد الصخري في البحر الذي سُميّ بيروت، والذي يبدو أكثر التحاماً بالبحر وبالمناطق المحيطة. فيما تعيش الأخيرة متقطعة الأواصر، على شكل أرخبيلات تفصلها فجوات وهمية بسبب صعوبة الوصول، فيتضرّر أو يغيب التواصل بين المناطق.

"بونزي النقل"!

يولّف شادي فرج، المؤسس المشارك لـ"حقوق الركاب"، صورة "نظام نقل مشترك يعتمد على الفردية ويعمل بطريقة غير منظومية. فهو يرتكز على سيارات الأجرة النظامية وغير النظامية، والفانات والباصات بأوقات غير محدّدة"، علاوة على "تركّز العشوائيات الحضارية في بيروت الكبرى، الأمر الذي يستجلب المزيد من مشاكل النقل".

ويرى أنّ "المركزية الاقتصادية معزّزة بغياب النقل العمومي، وهذا ما دفع 60 إلى 70 بالمئة من اللبنانيين إلى السكن في بيروت، وصار لبنان قائماً على "اقتصاد المدن الكبرى" على ما تشير منظمة الأمم المتحدة للسكان، ولم تعد القرى والبلدات في الحسبان. كل هذه العوامل توسع الشروخ الاجتماعية بين اللبنانيين، وجعلت النقل مقبرة للاقتصاد".  

وعلى المستوى الاقتصادي- الاجتماعي، يشير فرج إلى "أهم مسببات أزمة النقل المرتبطة باعتماد المواطنين على النقل الخاص الفردي، وضرورة اقتناء سيّارة في الثقافة المجتمعية اللبنانية"، وعزّزت هذا النمط "الحوافز المكرسة في الاقتصاد المحلي وتشريعاتها الخاضعة للمنطق الرأسمالي دون غيره، وخاصة قبل الأزمة التي عصفت في خريف 2019؛ تسهيلات للقروض المصرفية للسيارات، واستيراد السيارات، وأرباح شركات التأمين الخاصة، والمزيد من استيراد الوقود"؛ هذه الحلقة المغلقة يسمّيها "بونزي النقل".

سياسات فاشلة وبلديات مفتّتة

لا يجد شادي فرج ريباً في رداءة النقل العمومي في لبنان، "ذلك أنّ النقل انعكاس للسياسات والنظام اللبناني"، مستحضراً في أدبيات الحديث عن النقل كلمات على نحو "السير"، "واختناق السير"، و"السلامة المرورية"، و"قانون تنظيم السير"... كما "تجترح الحكومات حلولاً أمنية وآنية، لأنّها تهتم بالسير ولا تهتم بالنقل، ولكن مشاكل السير ليست سوى عوارض ونتائج، ويغيب النقاش الجدي والمعمّق حول الأسباب. وعلى نفس المنوال، تصبّ لجنة الأشغال والنقل النيابية اهتمامها على السير ولا تعالج النقل، وتحذو حذوها وزارة النقل والأشغال العامة التي تهتم بالأشغال فقط".

 ويوافق ما سبق، أنّه "عند انفجار كلفة النقل، يتحدّث الوزير عن تخصيص بدل نقل للموظفين. في حين أن نفس المبلغ المرصود، يمكن الوزارة من شراء 500 باص وتنظيمها، بخطة مستدامة ومنخفضة الكلفة. كما أجهض لبنان فرصة البنك الدولي لإرساء خطّة الباص السريع التي لم تنفّذ خلال مهلة السنة المقررة، واستبعدتها الأزمة. ولا تزال الباصات الـ50 التي وصلتنا من فرنسا قيد انتظار المناقصات من القطاع الخاص، وهذا لن يتم طالما الحكومة لا تزال مرتبكة حول تسعير الميزانية بين الدولار وبالليرة".

ويضيف "عوضاً عن تطوّر الاستثمار في النقل العام المشترك، تفاقم الوضع مع توقف مصلحة "سكة الحديد والنقل المشترك" (الأولى مسؤولة عن الترامواي والثانية عن الباصات)، جراء انفجار مرفأ بيروت. كانت تدير خطوط نقل مشترك داخل وخارج بيروت، منها 6 باصات في البقاع".

وبعيداً عن الظروف القسرية، يستحضر فرج "ديمومة" الفشل في سياسات النقل اللبناني، والتي "يمكن إرجاعها إلى خطأ مفصلي ارتكب عام 1964، حين انحصر اعتماد لبنان في الباصات واستغنى عن الترامواي، والذي كان معروفاً بـ"جحش النار" تيمّناً بالدواب المعتمدة سابقاً وسيلة نقل والدخان المتصاعد. اتُخذ القرار في غمرة انجراف العالم مع ثورة صناعة السيارات. وبحلول عشر سنوات، صححت دول العالم مسارها وشغّلت الترامواي، ولكن لبنان كان قد دخل لبنان مرحلة الحرب الأهلية".

ما تقدّم يكرس لدى مؤسس "حقوق الركاب" اقتناعه بـ"غياب بصائص الحلول لدى السلطة المركزية، وصعوبتها عند السلطة المحلية، لأنّ كثيراً من البلديات عبارة عن قرى متناهية الصغر، لا تمتلك الموارد ولا المصلحة المباشرة لتطوير النقل. الحلّ يكون في اعتماد مشاريع نقل مشتركة على مستوى اتحادات البلديات والمحافظات".

وإلى حين، تتفاقم هشاشات النقل في لبنان وتلزم "الكانتونات المناطقية" عزلتها، منقسمة داخل حدود غير مادية كانت في السابق خطوط تماس. وهي خريطة، بحسب شادي فرج، قابلة لإشعال وقود الصراعات الأهلية. 

زبائنية وتشويه تراث النقل

على نحو ما سبق، يجد كارلوس نفاع، رئيس جمعية "ترين ترين"، أنّ "جوهر الخلل يكمن في كَون من أعادوا إعمار لبنان بعد الحرب غير معنيّين بالتواصل بين اللبنانيين، لأنّهم نفسهم خاضوا الحرب الأهلية داخل مربعات صغيرة تتخللها المعابر. ومن الطبيعي أن يفكروا بنقل السيارات بدلاً عن نقل الناس. ولا ننسى أنّهم منحوا في التسعينيات 20 ألف رخصة لأرقام حمراء عمومية، أداة للزبائنية السياسية، وتعدادها وصل اليوم إلى 33 ألفاً".

وقياساً على هذه المقاربة، "تنتهي المشاريع الحكومية، المُجهض منها والمنفّذ، بتحويل شوارع لبنان إلى كراج للسيارات وأوتوسترادات من الاسفلت. وبالنظر إلى 30 بالمئة من اللبنانيين ممن لا يملكون سيارات خاصة، فإنّ هذه المشاريع متعارضة مع معايير العدالة الاجتماعية"، وفق نفّاع.

ويسيئه أنّ لبنان يختبر منذ ذلك الوقت تراجعاً وتشويهاً في "تراث النقل"، فـ"قد كان لبنان السباق في النقل المشترك على مستوى الشرق الأدنى، بفضل امتلاكه أوّل سكة حديد على خط بيروت- الشام، وافتتح في 4 آب 1895، أي قبل 125 سنة بالضبط من فاجعة المرفأ. وكانت القطارات مركزاً لشبكة منظمة كانت تتفرع منها الباصات التي تقلّ إلى المناطق".

حلّ: لبنان على سكة القطار؟

من جانب آخر، يتمتّع  لبنان بمقوّمات تفعيل شبكة نقل دامجة ولامركزية تنطلق من سكك القطار، بحيث يتجلى الحلّ المستقبلي في تطوير أدوات الماضي. "قضية" تحشد لها "ترين ترين" التأييد والمناصرة، تحت شعار "لبنان عالسكة". يكشف كارلوس نفّاع أنّ "الحكومة الحالية في صدد تحديد سكة الحديد الذي ستبدأ باعتمادها بناء على المخطط التوجيهي الذي رفعناه، ويتضمن نموذجأ عن خطّ طرابلس"، مفنّداً الموارد الجاهزة لتحقيق المخطّط:

في المقام الأول، الأرض متوفرة وهي الجزء الأعلى تكلفة. فلبنان يمتلك 403 كيلومترات من سكك الحديد على طول الخط الساحلي وخطوط بيروت/ رياق، ورياق/ دمشق، ورياق/حمص مروراً ببعلبك والبقاع الشمالي.

ولبنان استورد سكك حديد عام 2005 من إيطاليا، ولا تزال محفوظة من عوامل الطبيعة في مرفأ طرابلس، وتؤمن خطّ عكار-طرابلس. كما يمتلك 7 قطارات أميركية "إلكترو ديزل" انبعاثاتها منخفضة نسبياً، و5 قطارات بولونية طراز S245، لا تزال معتمدة في ألمانيا. 

ويؤكد نفاع اتباع الخطة تعددية الوسائط (multimodality)، فتتصل محطة القطار بالترامواي الذي بدوره يقف عند شرايين أساسية في المناطق، تقلّ الركاب إلى وجهاتهم بالباصات الصغيرة. وينتهي المخطط إلى مسارات آمنة للدراجات الهوائية، ويشجع "النقل السلس" للمشاة. 

ويتفادى المخطط القرارات الالغائية التي تستتبع مقاومة عامة، من خلال "ترقية" شروط وسائل النقل الشعبي والتنسيق بينها، من "توكتوك"، ودراجات نارية ومجموعات "كاربولينغ"، والفانات، وذلك بالاستناد إلى تحليل تنقّلات الناس اليومية وتحديد ساعات الذروة ومواقعها. 

عدالة اجتماعية في النقل

ما يُقيَّم على سبيل "القيمة التفاضلية" في المخطط المقترح، هو وفق كارلوس نفاع ذراع لـ"العدالة الاجتماعية" في لبنان من خلال النقل، وهي حق إنساني مكتسب.

ويشرح، أنّ "سكة الساحل اللبناني مؤهلة لتأسيس 48 محطة، تجتذب الاستثمارات الخاصة لتشييد كبريات المراكز التجارية والفنادق، وتحدث انعكاسات فارقة على السياحة والتنمية المناطقية، كما تفكك مركزية المواصلات والأنشطة السياحية. ويمكن نقل الدوائر الرسمية إلى المحطات وتخليص المعاملات بداخلها، فيخفّ الاحتباس المروري في المدن وهذا ما تحذوه لندن وعدة مدن أوروبية".

وأخيراً، يرى نفاع في أزمة الكهرباء فرصة لتشغيل الباصات الكهربائية وتأمين مورد اقتصادي لأهالي القرى، ما يرمّم الفجوات الاجتماعية بين المناطق، "بالاضافة إلى التكلفة المنخفضة، ومكاسب الطاقة الخضراء، يجدر سنّ قوانين تسمح للمواطنين بإنتاج الكهرباء، وهم يمتلكون اليوم نحو 800 ميغاواط كهرباء من الطاقة الشمسية، ما يعادل كفاءة معمل. يمكن إذن تشكيل مزارع طاقة شمسية محلية في القرى والبلدات، وتتولى تشريج الباصات الكهربائية".  

أزمة قد توحي بأفق مسدود، ولكن على سكتها طموحاً قيد التبلور لأجل نقل بيئي، عصري، مترابط، ودامج لكل المجتمع والمناطق وصديق للمسنين وذوي الهمم. نقل يساهم في تحوّل لبنان من أرخبيلات مغلقة ومتباعدة، إلى "مناطق كزوموبوليتية" متعارفة.


 

A+
A-
share
أنظر أيضا
18 تشرين الثاني 2021 بقلم معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت
18 تشرين الثاني 2021
بقلم معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت
أحدث فيديو
تحميل المزيد