قراءة للأوضاع الحقوقية أمام المراجع القضائية والأمنية

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 تشرين الأول 15 8 دقائق للقراءة
قراءة للأوضاع الحقوقية أمام المراجع القضائية والأمنية
يصعبُ على الحقوقيين الذين يتابعون عن كثب أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان، أن يصفوا هذا البلد بأنه «ملاذ» للهاربين من الموت والتعذيب. وما أكثر الملاجئ التي تقي من موت ولا تعفي من معاناة.
في الملجأ اللبناني، يحطّ المواطن السوري بحثاً عن محطة سلام، وينتهي مجدداً ضحيةً لسلسلة مترابطة من المعانات بسبب الإجراءات الرسمية اللبنانية بحق اللاجئين السوريين، حتى صار المواطن السوري يشعر بأنه «يُقاصَص» لأنه لجأ إلى لبنان، وكأن اللجوءَ خيارُ رفاهية.
يكفي لتوضيح المقصود بـ«القصاص اللبناني» عرض نبذة عن تجارب اللاجئين السوريين على مستوى كل من المديرية العامة للأمن العام، والجهاز القضائي (شرطةً وقضاةً)، وكذلك على مستوى عصابات الاحتيال التي تتلقفهم مثل خشبةٍ هشّة في محيط، إضافة إلى استغلالهم من قبل أرباب العمل اللبنانيين في ظلّ تنصّل وزارة العمل من توفير أي حماية لهم.
القضاء: حفظ الأمن مقابل تطبيق العدل
في موازاة الأحكام القضائية المشرّفة للقضاء اللبناني التي تطبّق القانون على السوريين من حيث هم لاجئون، والتي تأخذ بالاعتبار عنصر الضرورة الإنسانية، وأيضاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من الالتزامات الدولية للبنان، بهدف تبرئة الموقوفين بموجب تهم «الدخول خلسة» و«التزوير» و«استعمال المزوّر»، يسجل في عدد من الحالات تطبيق نهج ضيّق يتجاهل السياق الإنساني اللصيق بالفعل موضوع الحكم، من أجل إصدار أحكام إدانة بحق هؤلاء اللاجئين الموقوفين بموجب التهم المذكورة، وفرض عقوبات حبسية تتراوح مدتها عموماً بين شهر وستة أشهر، وغرامات مالية يتراوح أكثرها بين 200 و400 دولار أميركي. علماً أن معظم الموقوفين بهذه التهم هم من اللاجئين الذين اضطروا للاستعانة بمعقّبي معاملات (محتالين) من أجل الاستحصال بكلفاتٍ مرتفعة على مستندات ثبوتية من سوريا، أو من أجل تجديدها أو تخليص معاملات الدخول إلى لبنان في الممرات الحدودية المكتظة.
إلى ذلك، تغصّ السجون اللبنانية اليوم، وخصوصاً سجن روميه، بمئات اللاجئين السوريين الذين أوقفوا من دون ان يثبت تورطهم بأي جرم في المناطق التي شهدت أحداثاً أمنية في لبنان، وأغلبهم أحيلوا على المحكمة العسكرية بعد إخضاعهم لتحقيقات قاسية لدى استخبارات الجيش (تحدث عدد منهم عن تعرضهم لسوء معاملة وقال عدد آخر انهم ارغموا على التوقيع على افادات يجهلون مضمونها وهم معصوبو الأعين)، ووجهت اليهم تهم الإرهاب من دون أدلة كافية في معظم الحالات والكثير منهم ينتظرون منذ أكثر من عام صدور قرار ظني بحقهم من قبل المحكمة العسكرية للسير بدعاواهم. وكثير من هؤلاء هم من السوريين المعارضين (العلمانيين) الذين لجأوا إلى لبنان قسرياً بعد سقوط مناطق سورية حدودية بيد الجيش السوري النظامي أو بيد الجماعات السورية المسلحة المتشددة في العام 2014، واستقروا مع أسرهم في منطقة عرسال والبقاع الغربي آملين في الوصول بطريقة ما إلى دول إعادة التوطين الغربية. وبينهم أطفال أوقفوا وهم دون سنّ الرابعة عشرة (متهمون بالإرهاب كذلك). ويبدو من خلال الإفادات ان أي سوري صار عرضة لتهمة الإرهاب في حال تم توقيفه في ظل وقوع حوادث أمنية. والمعروف أن تهماً كهذه تحرم المتهم بها في معظم الأحوال من فرصة إخلاء سبيله قبل صدور حكم نهائي بحقه في نهاية محاكمات بطيئة كثيراً ما تمتد لأعوام.
أكثر من ذلك، ونظراً الى سرعة الأجهزة الأمنية في توقيف السوريين عند أدنى شبهة، صار اللاجئ السوري يخشى طرق باب القضاء كصاحب حقّ خشيةً من أن يتمّ زجُّه في السجن لأي سبب حقيقي أو ملفّق، وخصوصاً عند عجزه عن تأمين شروط إقامته القانونية في لبنان. وقد أدى ذلك إلى تحوّل اللاجئين السوريين إلى لقمة سائغة لدى شبكات المحتالين والنصّابين، الذين يستغلّون التوجس الأمني لدى أولئك فيستضعفونهم أو يهددونهم بتلفيق التهم لهم إذا ما فكّروا بالتوجّه إلى القضاء عند تعرضهم للظلم. وما أكثر عصابات الاحتيال والنصّابين الذين سلبوا المدخرات القليلة للاجئين السوريين وعداً بتأمين الهجرة أو جوازات السفر أو تأشيرات السفر، أو حتى لإنجاز معاملات الأمن العام المستعصية! حتى أن عدداً من هذه العصابات وهؤلاء المحتالين يقوم مرات كثيرة بتوظيف لاجئين سوريين لتنفيذ الأعمال الاحتيالية، ويجعلونهم «كبش الفداء» إذا ما تجرأت ضحية من الضحايا على محاولة استرداد حقها عبر القضاء اللبناني.
الأمن العام: أعباء ملحّة تتجاوز الموارد الحالية
بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 139 الصادر بتاريخ 1959/6/12، أصبح الأمن العام في لبنان مديرية عامة ترتبط بوزير الداخلية مباشرةً، ويترأسها مدير عام، وتتضمن مهامها في ما تتضمن: «مراقبة الأجانب في كل ما يتعلق بدخولهم إلى لبنان، وإقامتهم فيه، وخروجهم منه، ومراقبة تنقلاتهم، والسهر على حمايتهم»، و«إعداد البلاغات والملاحقات المتعلقة بالبحث ومنع السفر ومنع الدخول»، فضلاً عن مهام أمنية تتمثل بـ«جمع المعلومات لصالح الحكومة وخصوصاً المعلومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية». ولقد منحت هذه الصلاحيات لهذه المديرية سلطة شبه مطلقة في التحكم بالأوضاع القانونية والأمنية للسوريين في لبنان، فلا يمكن أن يعبر أي سوري الأراضي اللبنانية من دون أن يزور أحد فروع الأمن العام أو مديريته، ومن دون ان يكون له ملفٌ منظّم فيه؛ وهو لا يُحال على المحاكمة قبل أن تستجوبه أولاً شعبة المعلومات التابعة للأمن العام وفق ضروبٍ متفاوتة من اللين أو الشدة، بحسب الدرجة الأمنية للشبهة المحيطة بالموقوف؛ ولا يُخلى سبيل محكوم نفّذ عقوبته إلاّ بعد سوقه إلى نظارة المديرية العامة للأمن العام في بيروت، وإجراء تحقيق ختامي معه. كذلك لا يُسمح لأي سوري لم يتمكن من تأمين شروط إقامته أن يغادر لبنان من دون أن يستحصل أولاً على إذن المغادرة من الأمن العام، عبر معاملاتٍ مثقلة بالرتابة الإدارية تمتدّ لأشهر في أغلب الحالات...
ومنذ مطلع العام 2015، فرض الأمن العام على السوريين شروطاً جديدة لدخولهم إلى لبنان وإقامتهم فيه، ولخروجهم منه كذلك. وقد تشكّلت القناعة لدى كثير من اللاجئين بأن المحرّك الرئيسي لهذه الشروط لم يكن حفظ الأمن بقدر ما كان تصعيب الحياة عليهم ودفعهم إلى مغادرة الملجأ اللبناني عند أول فرصة. فبمعزل عن الرسوم المالية المرتفعة نسبياً (200 دولار أميركي) التي تفرضها المديرية سنوياً على كل مواطن سوري فوق الـ15 سنة حتى ضمن الأسرة الواحدة، غير غرامات الدخول خلسة (بين 400 و633 دولاراً أميركياً)، يوجب الأمن العام على كل لاجئ سوري إيجاد أسرة (أو ربّ عمل) لبنانية تكفله، ومالك عقار يتعهد بسكنه لقوننة إقامته في لبنان، تحت طائلة توقيفه تكديرياً، وإصدار قرار تسفير وبلاغ «منع دخول» بحقه (وهو لا يزال في لبنان!). ويتم التساهل في هذه الشروط مرات بحسب سنّ اللاجئ (فوق الستين) ومحل إقامته (عرسال). وبخلاف الشروط المنصوص عنها، ترفض العديد من معظم فروع الأمن العام منذ منتصف العام الحالي استمارات التسجيل لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة كبديل للكفيل، علماً أن المفوضية تمتنع عن تسجيل لاجئين جدد منذ بضعة أشهر.
وتغصّ نظّارات مديرية الأمن العام وفروعها في مختلف المناطق اللبنانية بالموقوفين السوريين، الذين يدخلونها ويغادرونها كل شهر بالآلاف، وحيث يُحجزون في أوضاع إنسانية وصحية متردية ريثما يُتخذ القرار إما بإحالتهم على المحكمة المختصة أو بإخلاء سبيلهم، مع منع المحامين من لقائهم أو التوكّل عنهم طيلة فترة التحقيقات الأمنية (شعبة المعلومات). ولهذا الاكتظاظ تحديداً، يضطر الأمن العام إلى التأخر في سوق الموقوفين والسجناء من المخافر لفترات تمتدّ إلى أسابيع، حتى حين يكون التوقيف تكديرياً أو العقوبة الحبسية قد نُفذّت.
عدا عن ذلك، تتوحّد معاناة اللاجئين في الوقوف ضمن طوابير الانتظار الطويلة طيلة ساعات مضنية أمام فروع الأمن العام ومديريته من أجل متابعة معاملة لا تُنجز إلاّ بعد زيارات متكررة ومماطلات بيروقراطية في الغالب. ولا شكّ أن الأعداد الهائلة نسبياً للاجئين السوريين في لبنان (أكثر من مليون لاجئ بحسب آخر إحصاءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة - UNHCR) أرخت بظلالها على أداء الأمن العام كمؤسسة ذات قدرات وموارد مالية وبشرية محدودة وموكلة في الوقت عينه بمتابعة كل شاردة وواردة تخصّ تحركات اللاجئين ضمن الأراضي اللبنانية، على مستوى القدرات البشرية والإدارية، ويتجلى الضغط الكبير على هذه المؤسسة في عدم قدرتها على حسن تطبيق التعاميم الكثيرة التي تصدرها وتعدّل منها كل شهرين تقريباً، حتى صار إنجاز معاملات بسيطة مثل طلبات «رفع الالتباس»، و«استرداد معاملة»، و«إعادة نظر بقرار تسفير»، و«تسوية إقامة»، و«استرداد مستندات ثبوتية»، يتطلب أشهراً، فيما تضيع في أدراج الأمن العام، مرات كثيرة، الأرقام الحقيقية للمحاضر التي تُحال بموجبها الأوراق الشخصية الثبوتية للسوريين المخلى سبيلهم على المحاكم المختصة.
والحقيقة أن إدارة الأمن العام بذلت جهوداً من أجل تلبية التزاماتها لجهة معاملات الإقامة والمغادرة وغيرها من المعاملات الخاصة باللاجئين السوريين تحديداً. وقد نجحت المديرية خلال الأشهر الأخيرة في تخفيف الضغط عن مراكزها الرئيسية والإقليمية عبر تمكين غالبية كبيرة من اللاجئين المنتهية إقاماتهم من إنجاز معاملات المغادرة مباشرة في المراكز الحدودية براً وبحراً وجواً، كما قدّمت للداخلين خلسة فرصة تسوية أوضاعهم للبقاء أو المغادرة في مهل معقولة نسبياً.
ولكن الحقيقة الأهم التي يجدر الاعتراف بها هي أن المديرية العامة للأمن العام لن تكون قادرة، في ظلّ استمرار الأزمة السورية الراهنة، على تقديم أداء جيّد لتلبية جميع المهام الموكلة إليها من دون توسيع وتطوير مواردها الإدارية والبشرية وتكييف تعاميمها مع متطلبات الظروف الراهنة والمتقلّبة. هذا مطلبٌ ملحّ يجب على المعنيين عدم الاستخفاف به. ومن شأن تطويرٍ كهذا أن يخفف من معاناة اللاجئين السوريين في لبنان وكذلك من الأعباء الملقاة على عاتق موظفي الأمن العام الذين يضطرون مرات إلى العمل خلال الإجازات الأسبوعية أو الرسمية من جراء الضغط المطرد في ما يتعلق بمعاملات اللاجئين... ولن يتسع البحث الحاضر لتفصيل شكل التحسينات الإدارية المطلوبة من المؤسسات الأمنية والقضائية في لبنان. ويقتضي لذلك مقالٌ آخر.
كل هذا من دون ذكر الاستغلال الفاحش للاجئين السوريين من قبل أرباب العمل في ظل امتناع وزارة العمل عن منح إجازات عمل لهم، وبالتالي حرمانهم من الحماية التي يكفلها قانون العمل اللبناني، ما اضطرّ عدداً كبيراً منهم إلى العمل وفقاً لشروط غير إنسانية، وطيلة دوامات تمتد «من الفجر إلى النجر»، ومن دون راتب سوى «البقشيش»(!)، فقط من أجل تأمين كفاف يومهم وردّ الجوع والتشرّد عنهم.
يطولُ الحديث عن الأوضاع الحقوقية المتردية للاجئين السوريين في لبنان، مع التشديد على أن البحث الحالي إنما يتناول، كما أظهرتها التجربة حصراً، هذه الأوضاع أمام المراجع القضائية والأمنية اللبنانية. وهو غير معني بنقاش أوضاع السوريين لجهة عمليات الإغاثة الإنسانية مثلا، أو خطط الدعم الطبي والتربوي وغير ذلك. ولن يتسع البحث كذلك هنا إلى مقاربة معاناة هؤلاء في مسائل حيوية أخرى، مثل محاولة إنجاز معاملات أحوالهم الشخصية (ولادة وطلاق وغير ذلك) لدى المراجع المختصة اللبنانية والسورية، أو مثل محاولة الاستحصال على جوازات سفر سورية (حتى بعد صدور المرسوم التشريعي السوري رقم «17» في نيسان الماضي)، وغير ذلك.
يطولُ الحديث، وليس ما سبق سوى غيض من فيض. وبغياب الإرادة السياسية اللازمة، سيستمر لبنان بالتعامل مع لجوء السوريين إليه وكأنه خيار، وليس كحق طبيعي أقرّت به كل شرائع حقوق الإنسان.
A+
A-
share
تشرين الأول 2015
أنظر أيضا
07 أيار 2020 بقلم جورج حابك، صحافي
07 أيار 2020
بقلم جورج حابك، صحافي
07 أيار 2020 بقلم جاد ملكي، باحث
07 أيار 2020
بقلم جاد ملكي، باحث
07 أيار 2020 بقلم جنى الدهيبي، صحافية لبنانية تعمل في جريدة المدن الإلكترونية وتتعاون مع عدد من المنصات العربية
07 أيار 2020
بقلم جنى الدهيبي، صحافية لبنانية تعمل في جريدة المدن الإلكترونية وتتعاون مع عدد من المنصات العربية
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
25 نيسان 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
25 نيسان 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
تحميل المزيد