من خلف شاشة تلفاز صغيرة، ولاقط قصير نرفعه بحذر فوق أسطح منازلنا كي لا نفقد الصورة، كنا نرى لبنان، ليس لبنان الذي نعرفه الآن، أو الذي كنا ندعي أننا نعرفه، بل لبنان مؤدلج، صنعته الميديا، وتديره شركات الإنتاج الإعلامي، التي حرصت على تقديمه وكأنه مساحة للحرية والحوار، والبرامج الاجتماعية والسياسية المركبة على أساس طبيعة البلد وتقسيمه الديموغرافي، كان السؤال يومها واضحاً حول واقع البلد، ولكن الهامشي والمخفي خلف سياقات البرامج والصور الملونة وما يحاول الأعلام عرضه باستمرار كان مختلفاً جداً.
قد تبدو هذه قصتي الشخصية، ولكن هذه قصتنا جميعا، نحن "غرباء" هذه البلد، التي دفعتنا الظروف السياسية والأمنية في سوريا للعيش مع المدن والمناطق والأحياء لبنانية، لم يكن اليقين قائماً على محاولات الاندماج، بقدر ما هو قائم على كسر الهشاشة والتهميش، على الرغم من السياق العام الذي تعيشه المدن والبلدات اللبنانية،التي جعلت من الإنصات كفعل بناء مستحيلاً، في بلد مبني ليكون فقيراً بالمساحات العامة.
يعيد الإنصات بناء الإجابات الهشة التي لطالما حاولنا تجاوزها، خاصة في أسئلتنا عن الآخر، ويفكك تصورات نمطية تراكمت مع تجربة قدمت المختلف عقائدياً أو اجتماعياً وسياسياً تناقداً غير مبرر يحجب كل محاولات التواصل، هذا تحديداً ما يجعل سؤال بناء السلام سؤالاً شخصياً قبل أن يكون عاماً، وتفصيلياً وتحليلياً يرى في الممارسة الجماعية أداة لإشراك الجميع في الحيز العام.
تدار المساحات العامة في لبنان بسياسة الحجب أحياناً، بعض البلديات تحولها إلى أداة تكرس من خلالها هيمنتها، فأغلب القرارات التي تديرها لا تستند على قوانين دستورية واضحة، وغالباً ما تكون معتمدة على سياسة مبهمة، وارتجال يرى في الحيز العام وسيلة لإقصاء وطمس الفئات الهشة والمهمشة، ومحو اللاجئين والعمال والفقراء اللبنانيين والسوريين، دون أي مراعاة للحاجة المكانية لسكان المدن والبلدات. أدت هذه السياسة لتعزيز الخطاب العنصري، بتوجه واضح لتقسيم الفئات الاجتماعية، دون أي اشتباك مع أسئلة الواقع، أو محاولة لإدارة الفضاءات العامة كونها مساحات مشتركة، يمكن إعادة إنتاجها في سياقات تفاعلية، لفهم من هم أكثر ضعفاً، على الرغم من مواجهة هذا الخطاب من بعض البلديات التي تبدي استعدادها لفتح مساحات أوسع، ولكن ما زال لبنان يعاني على صعيد المساحات العامة.
منذ بداية اللجوء السوري حتى اليوم، كان سؤال إعادة تشكيل المساحات العامة مرهوناً باحتمالات الجدوى، حتى عندما كانت الأحداث السياسية والاجتماعية، تعتمد بشكل أساسي على تحديد مساحة اللاجئين، وعدم إشراكهم في الحيز العام، وكانت أوضح صورة لهذا التحديد، لافتات بعض البلديات، التي تحدد ساعات حجب السوري من الساحات العامة والشوارع الرئيسية، وفرض مخالفات وتهديدات للمخالفين، وحصر اللاجئات واللاجئين بأدوار محددة لا تتعدى الخدمات القادرين على تقديمها بمقابل مادي زهيد غالباً، لذلك كان سؤال صناعة السلام في المجتمع يحتاج لمساحات أكثر اتساعاً، ويواجه تحديات المشاركة الفعلية لجميع السلطات الاجتماعية والسياسية.
من خلال الثقافة استعادت مؤسسة "العمل من أجل الأمل-Action For Hope" جدوى العمل الفني والسينمائي والأدائي، كونه لغة مشتركة في منطقة تعيش ثوراتها الداخلية، وتخوض عميقاً في أسئلتها الوجودية السياسية، منذ انتقالها من مصر إلى لبنان عام 2014، وانطلاق العديد من القوافل الإغاثية الثقافية إلى مخيمات دول اللجوء في تركيا والأردن وغزة، وصلت إلى البقاع اللبناني، لإنتاج مدرسة تضم عملاً فنياً سينمائياً وأدائياً دائماً، وركزت على الموسيقى التي لها دور كبير في المؤسسة، مدرسة الموسيقى في البقاع شكلت مساحة جديدة ضمن نطاق ضيق، استطاع تجاوز هامش التحريض الممنهج، من خلال دمج جميع فئات المجتمع ضمن نطاقات فنية، تكسر حاجز التأويل وتعيد بناء جوهر العمل الثقافي والأمان المجتمعي الخاص في منهج السلام، من خلال ضم اللاجئين السوريين مع المجتمع اللبناني واللاجئين الفلسطينيين، كلهم في مساحة واحدة وفرقة واحدة للتدريب والعمل على الموسيقى كونها مساحة مشتركة تلغي الفوارق الهشة التي صنعتها الخطابات العنصرية وسياسة المباشرة وحجب الآخر.
في منطقة بر الياس قضاء زحلة التابعة لمحافظة البقاع، والتي يشكل فيها اللاجئون أكبر نسبة مقارنة بباقي محافظات لبنان، بنسبة تصل إلى 38% أي ما يقارب 312 ألف لاجئ، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، التواجد في البقاع ساعد للوصول إلى نسبة أكبر من اللاجئين، على الرغم من مركزية العاصمة بيروت، ولكن تواجد مساحة مفتوحة لجميع اللاجئين واللبنانيين ضمن قضاء يعتبر فقيراً بالمساحات والمؤسسات التعليمية المجانية، وفر فضاءاً أوسع لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، وجمع الروابط من خلال الإنتاج والتعليم الموسيقى، الذي استطاع من خلال الممارسة، محو الفوارق الطبقية والطائفية التي تعتمدها السلطة كدليل لحجب الآخر المختلف من الحيز العام، حتى للطلاب من مخيمات خارج البقاع، مثل مخيم شاتيلا في بيروت، التي تنقلهم المؤسسة إلى البقاع في مواصلات خاصة للتعلم.
شكلت المدرسة الموسيقية في البقاع إلى 30% لبنانين 20% فلسطينيين و50% لاجئين سوريين، هذا التنوع في مساحة مفتوحة بشكل كامل للمشاركة بحرية، ضمن نطاق ثقافي وفني، أضاف قدرة حقيقية لخلق أدوات أنضجت جدوى صناعة السلام، دون أي حجب لفئات مجتمعية دون غيرها، ولربما هذا التنوع هو الذي أنجح المدرسة، بقدرته على استيعاب التنوع. شكلت أزمة تمويل المشروع عائقاً في بعض الفترات للاستمرارية، ولكن مع ذلك شكلت مؤسسة (العمل للأمل) اليوم مجتمعاً ثقافياً قادراً على استنباط مفاهيم جديدة حول الجدوى الحقيقية لتقبل الآخر، وهذا التقبل اليوم، قدم عروضاً موسيقية تعتبر إضافة للبقاع وبيروت ولبنان، ومثلاً كبيراً لما يمكن أن تقدمه المساحات العامة الخالية من التعصب والعنصرية.
تقول فرح قدور مديرة البرامج في "العمل من أجل الأمل-Action For Hope" : "العملية نجحت، الآن الموسيقيون يقدمون عروضاً لوحدهم على المسرح، من خلال تدريبهم على فترة 18 شهراً، ثلاثة منهم فقط للتعرف على الآلات واختيارها، ومن ثم بدأ العملية التعليمية، وبعد الحفلات وانتهاء فترة التدريب، تبدأ مرحلة التعلم على التقنيات، وورش تأليف موسيقي، والتوزيع، والتعرف على أنواع الموسيقى الشعبية العراقية والكردية مثلاً، وهذا كله من خلال ضيوف زائرين من موسيقيين لديهم خبرتهم الطويلة، وإنتاجهم الممتاز على الصعيد الفني.
نحن بدأنا من منطقة بعيدة عن مركزية بيروت وتعتبر صغيرة، وفيها الكثير من مخيمات اللاجئين، أن نقدم مدرسة موسيقية في مجتمع مهمش هي مهمة صعبة، لذلك نحن لا نستخدم كلمة "لاجئ سوري" نستخدم كلمة "مجتمع مهمش" وحتى ابن البقاع اللبناني الذي يريد أن يتعلم الموسيقى هو مهمش أيضاً".
أكدت مؤسسة (العمل للأمل) أن محو الاختلاف ممكن، ومواجهة السياسات المعادية للاجئين أيضاً يمكن أن تكون إضافة للبلد المضيف، وأن خلق مساحات للدمج ليست مستحيلة، طالما كانت قائمة على إلغاء الصور النمطية التي عززتها السلطة وتبناها الإعلام، من خلال الموسيقى والفن، استطاع السياق التعليمي أن يتبنى أدوات أكثر منهجية، لزيادة الترابط بين أفراد المجموعة، وتشارك المهام وتبادل الخبرات، وبناء ثقة حقيقية تجعل من مشكلة العنصرية، هامشية جداً.
تقول إيلين 16 عاماً: "لم أتخيل أن أحب الموسيقى لهذه الدرجة، أتيت من منزلي الكبير في درعا، وفجأة وجدت نفسي في خيمة، ضمن مخيم كبير، يديره شيوخ من لبنان، ضد العزف وتحديداً للفتيات، واجهت المخيم والمنع، سرقت آلتي، وتحطمت أكثر من مرة، وبدأت بتهريب الآلة، والآن وجدت نفسي من جديد، وأمتلك ثقة حقيقية بتقبل نفسي هنا، وسوف أستمر، أنا الآن وجدت نفسي وأصدقائي وموهبتي، وأمتلك التواصل الحقيقي مع هذا المجتمع، صرت أشعر أني موجودة ولي دور"
وجدت زهراء منسقة البرامج في (العمل للأمل) هذا الأثر مع عائلات الموسيقيين، عندما يرى المجتمع المضيف نتيجة هذه المساحة على أبنائهم، وماذا يمكن أن تضيف لمنطقة "بر الياس" البقاعية، وكيف يمكن من خلال إدارتها دون سياسة تمييزية، وماذا يمكن أن نصل إليه من نتائج لو استغلينا المساحة العامة كوسيلة لتقبل الآخر.
أخيراً استطاعت (العمل للأمل) من تخريج 77 موسيقياً محترفاً، وتقديم دورات متقدمة للعديد منهم ليكونوا مثالاً بوجه الخطاب العنصري السلطوي، الذي يعتمد على مبدأ الإلغاء، وخلق فضاء مفتوح للتجربة، يمكن من خلاله قراءة واقع البلدات اللبنانية، والمدن، التي يمكن أن تستغل هذا المثال، ليس مثالاً للسلام فقط، بل كمثال لكسر النمطية التي تعزز الفوارق الهشة بين الأفراد، يقول زياد 17 عاماً من منطقة البقاع وعازف في مدرسة (العمل للأمل) " نحن هنا خلقنا مساحتنا المشتركة، نتفاعل ونحب ونبدع، لقد انتهت بالنسبة لي كل الصور النمطية التي راكمتها السياسة برأسي عن اللاجئين، نحن جميعنا مهمشون، واستعادتنا لأنفسنا و لقدرتنا على التشارك، هي جوهر وجودنا هنا، لذلك أعتبر هذه المساحة مهمة، ليس لأنها تعلمنا الموسيقى فقط، بل لأنها تعطينا أملاً حقيقياً بأن كل الصور النمطية التي تحجب الآخر هي هشة وغير حقيقية أبداً".