تجمع الدراسات الأكاديمية وآراء المتخصصين على أن هذه المقدمات تتعارض مع مبادئ مهنة الصحافة، وأخطر من ذلك أنها تصل في بعض الأحيان إلى تهديد السلم الأهلي، ذلك أن جذور هذه الممارسة إنما تكمن في التقاليد الصحفية ذات الجذور العسكرية التي سادت خلال سنوات الحرب.
إشكاليات مقدمة النشرات
ويمكن اختصار الإشكاليات التي تطرحها مقدمات النشرات على صعد أربعة: مهنية، سياسية، قانونية وأخلاقية.
على الصعيد المهني: تبدو المقدمات في أحيان كثيرة خارج المعايير المهنية من حيث اختيارها الأولويات الإخبارية ومن حيث تبنّيها لخطاب موجّه أو أيديولوجي بعيداً من أولوية الحدث ومن القواعد المهنية واستجابة لأجندات سياسية من أصحاب المحطات أو من يقف وراءها.
على الصعيد السياسي: من حيث استعمالها كمنبر لإيصال الرسائل السياسية أو في حملات ترويجية ودعائية ضد الخصم، أو تصفية الحسابات بين الأفرقاء، ما يجعل خطابها في بعض المرات حاداً أو عنيفاً، مع ما يستتبع ذلك من توتر بين الأطراف الداخلية ومن شحن سياسي أو طائفي.
على الصعيد القانوني: تتعارض المقدمات الإخبارية في كثير من الأحيان مع قانون المرئي والمسموع التي استحصلت المحطات رخصة البث على أساسه، إذ «لا يحق للمؤسسة الإعلامية في مقدمات الأخبار أن تلحق اسم جهة سياسية بنعت ينطوي على مواقف، ولا أن تعمّم تسمية تخالف التسمية المعتمدة من قبل الجهة المستهدفة، ولا يحق لها أن تعرض واقعة أو حادثاً فتلصق في العبارة نفسها إيحاء اتهامياً بحق جهة سياسية معينة، ولا يحق لها وفق القانون أن تدخل على خط التعامل مع قضايا أو ملفات قيد النظر لدى القضاء». والكثير من هذه الأمور ترد في مطلع النشرات الإخبارية.
على صعيد الأخلاق الإعلامية: إن الخروج عن المبادئ المهنية، واستخدام الخطاب العنفي والاتهامي، يتعارضان مع مبادئ أخلاق المهنة من حيث الالتزام برسالة الإعلام في بناء رأي عام واع من خلال تزويده بالحقائق والوقائع التي تسمح له بالتعرف إلى محيطه وإلى موجبات المصلحة العامة، فضلاً عن أن الخطاب العنيف والاتهامي الذي تستخدمه هذه المقدمات في بعض الأحيان يتعارض مع متطلبات السلم الأهلي ولا يخدم الشأن العام.
وبيّنت دراسة تحليلية لمقدمات المحطات التلفزيونية والإذاعية أن 33 % من خطاب هذه المقدمات هي ترويجية وانتقادية، ما يدلّ على المنحى الذي تأخذه وابتعادها عن المنحى الإخباري.
كما أظهرت دراسة أخرى أن هذه المقدمات تستخدم وسائل الحرب النفسية كمثل: الخداع عن طريق الإيهام، إثارة القلق، دحض افتراءات الخصم، التهديد، بث الذعر وإطلاق الشائعات، التحقير، الإغراء والتضليل.
موقف المحطات
على رغم تكرر الانتقادات والشكاوى لهذه المقدمات فإن المحطات تتمسك بها وتدافع عنها مع علمها بأنها تخرق مبادئ الممارسة المهنية السليمة. فهي تشكل بالنسبة إليها باب جذب للجمهور لما تتضمنه من إثارة، وهي بالتالي تجذب المعلنين الباحثين عن نسب مشاهدة عالية. وبالنظر إلى الأزمة المالية التي يعانيها الإعلام اللبناني عموماً فإن التسابق على كسب الجمهور بات من الأولويات. وترّكز موقع مقدمات أخبار المحطات التلفزيونية لدرجة أنها باتت مادة إعلامية مستقلة (بمعنى الحدث) تنقلها الإذاعات والمواقع الإخبارية الرقمية، وفي بعض المرات يبني عليها الصحافيون تحليلاتهم ومواقف الأفرقاء الصادرة عنهم.
ويشرح الإعلامي وليد عبود «أن المقدمة باتت ضرورية وتعتبر أداة جذب للجمهور، والدليل على ذلك تجربة أخبار «إم تي في» عند انطلاقتها، إذ حاولت أن تكون نشرتها على الطريقة الغربية من دون مقدمة، لكنها لم تلق تجاوباً من الجمهور (...) على رغم أن الجمهور يقول إنه لا يريد مقدمات في نشرات الأخبار لأنها غير محايدة، لكنه في العمق يطلب هذه المقدمة والتجارب أثبتت ذلك». ويؤكد مدير الأخبار في قناة «المنار» محمد عفيف «أهمية المقدمة بالنسبة إلى المحطة: «أننا نطلق من خلالها موقف الجهة السياسية التي نمثلها (...) بما يتوافق مع طبيعة الجمهور الذي نتوجه إليه».
كذلك كرمى خياط رئيسة مجلس إدارة قناة «الجديد»: «نحن نفتخر أن قناة الجديد قد كرّست نموذج المقدمات الإخبارية، وقد أثبتت الإحصاءات أن المشاهدين يبدأون بطليعة نشرات الأخبار ومن ثم ينتقلون إلى محطات أخرى».
الجذور العسكرية للإفتتاحية
إن تعارض مقدمات الأخبار مع المبادئ الإعلامية عموماً يعود إلى الدور الذي أناطه بها أصحاب المحطات التلفزيونية والإذاعية، إذ أن المحاصصة السياسية والطائفية التي جرت في منح رخص البث جعلت ملكية هذه المحطات في أيدي أحزاب أو أشخاص تبعاً لانتمائهم الطائفي والسياسي، وباتت المحطات امتداداً لتوجهات أصحابها، وبالتالي باتت إحدى أدوات النشاط السياسي أو الحزبي أو الطائفي، مع ما يستتبع ذلك من تحويل وتحوير في المضامين والبرامج لتصب في الاتجاه المقصود.
ومن أجل فهم المنطلقات الأساسية للمقدمات الإخبارية في لبنان لا بد من العودة إلى جذور بداياتها أي انطلاق المؤسسات الإعلامية الخاصة في لبنان، وهي أولاً المحطات الإذاعية ومن ثم المحطات التلفزيونية.
فقد انطلقت المقدمات الإخبارية في نشرات المحطات الإذاعية التي نشأت في لبنان مع بدء الحرب الأهلية عام 1975. وقد نشأت هذه الإذاعات في كنف القوى العسكرية على الأرض، إذ كان لكل ميليشيا إذاعتها. فكانت القوة العسكرية تخوض الحرب ميدانياً فيما ترافقها الإذاعة إعلامياً ودعائياً. ويمكن تعداد الكثير من هذه الإذاعات التابعة للميليشيات، كمثل: صوت لبنان، صوت لبنان العربي، إذاعة لبنان الحر، صوت الأمل، صوت الجبل، صوت الوطن، صوت الشعب، صوت لبنان الحر الموحد، إذاعة المقاومة الإسلامية، صوت الحقيقة...
الإذاعة أداة عسكرية بامتياز
إن ظهور الإذاعات في لبنان مع الحرب الأهلية عام 1975 ليس حالة استثنائية. فالإذاعة في الكثير من دول العالم رافقت انطلاق الثورات وحركات التحرّر، أو أيضاً الحروب التي كانت تخوضها الدول. والإذاعة هي الرديف للمدفع لأنها تخوض الحرب النفسية والحرب الإيديولوجية. وهي ترجمة للوجود العسكري والسياسي على الأرض ورمز وجود هذه القوة.
والإذاعة تميزت منذ انطلاقتها في الربع الأول من القرن العشرين بقدرتها على تخطي الحواجز والمسافات والدخول إلى كل منزل واختراق خطوط الخصم. كان ذلك سبعين عاماً قبل ظهور البث الفضائي عبر الأقمار الصناعية. وهو ما لم تكن تستطيع أن تحققه أي وسيلة إعلامية غيرها.
لذا لعبت الإذاعة دوراً رئيسياً أساسياً في مختلف والحروب والثورات في العالم منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. وقد كانت الحرب اللبنانية منذ 1975 أحد ميادين الحروب الإذاعية بامتياز. وقد تميزت بكونها سلاح الحرب النفسية والدعاية السياسية، ودورها أن تخوض الحرب الإعلامية للوصول إلى النصر. لذلك كانت الإذاعات تتعرض للقصف شأنها شأن المواقع العسكرية الأخرى. كما لوحظ أن الخسارة العسكرية لميليشيا ما كان يستتبعها إقفال الإذاعة.
وكانت الإذاعة في حينها الوسيلة الإعلامية الأولى بالنظر إلى المعوّقات التي تعرضت لها الصحافة المكتوبة غير القادرة غالباً على اجتياز المعابر بين المناطق. فيما تتمتع الإذاعة بخصوصية لا ينافسها فيها أحد: السرعة، الآنية، سهولة البث والتلقي، تخطي الحواجز والمسافات. لذلك رافقت اللبنانيين طوال الوقت من السيارة إلى الملجأ، وكانت ترشدهم إلى الطريق «الآمن والسالك» وتدلهم على مكان تساقط القذائف.
في هذه الأجواء نشأت مقدمات الأخبار الإذاعية: دور عسكري للإذاعة بامتياز، يواكب البندقية لتحقيق النصر، أناشيد حماسية، أخبار موجهة لشد الهمم وحماسة المقاتلين. فتأتي مقدمات الأخبار لتترجم هذا الهدف. هذه المقدمات ترسخت في نشرات الاذاعات، وانتقلت لاحقاً إلى المحطات التلفزيونية التي اتّبعت التقليد ذاته، لا سيما وأن محطات التلفزيون الأولى أطلقها صحافيون إذاعيون نقلوا خبرتهم إليها.
عام 1976، اعتبرت الحكومة الأولى في عهد الرئيس الياس سركيس برئاسة سليم الحص أن المحطات الإذاعية مضرّة وغير شرعية. واتهمها الرئيس الحص بأنها تمارس «القصف الإذاعي». وقد تبنّت القمة العربية التي انعقدت في بيت الدين عام 1978 إقفال جميع الإذاعات الخاصة. كما صدرت في العام نفسه مذكرة حكومية منعت الرسميين من الإدلاء بتصريحات إلى الإذاعات الخاصة بهدف التضييق عليها وإسكاتها. غير أن الاذاعات استمرت وحصلت على تراخيص وتبعتها المحطات التلفزيونية.
خلاصة
إن معالجة وضع مقدمات الأخبار لا يمكن أن تتم بمعزل عن بنية الإعلام اللبناني القانونية والمالية والأخلاقية والنقابية، ولا بمعزل عن الوضع السياسي العام. لكن لا بد للقيمين على وسائل الاعلام وللإعلاميين من أن يدركوا أن المصلحة العامة تعلو على أي مصلحة أخرى وأن هناك خطوطاً حمراً لا يجوز تجاوزها حفاظاً على السلم الأهلي، وأن الانتقال من حال الحرب إلى حال السلم يتطلب تغييراً في الخطاب السائد.
١- - هذه بعض المخالفات التي يستعرضها رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع عبد الهادي محفوظ. جريدة «النهار» 6 آذار 2017. «مقدمات الأخبار التلفزيونية وموجبات القانون».
٢- - «دور مقدمات نشرات الأخبار في تعزيز السلم الأهلي». جوسلين نادر، طوني مخايل. مؤسسة مهارات، 2016. وجاء في خلاصة الدراسة: «الحرب لم تنته بعد، وهو ما يبدو لنا في المقدمات. وهو ما كان استنتجه أيضاً التقرير النهائي للإستطلاع الميداني الذي أقامه المركز الدولي للعدالة الانتقالية في بيروت الكبرى حول نظرة سكان بيروت الكبرى للحروب اللبنانية 1990-1975 من خلال كلام عدة أجيال حول هذه الفترة».
٣- - علي رمال. «مقدمات نشرات الأخبار التلفزيونية: اصطفافات سياسية، حرب نفسية وخرق للقوانين». في: «الإعلاميون وأخلاقيات المهنة». الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، بيروت 2009.
٤- - http://maharat-news.com/News12 نيسان 2016
٥- - كارولين عاكوم 23/8/2007 الشرق الأوسط. وعن المبالغة التي تظهر على تعابير وجوه بعض الإعلاميين في المحطة خلال قراءتهم النشرة، يقول عفيف: «هذا الأداء قد ينزعج منه فقط المعارضون لسياسة المحطة (...) يجب على الإعلامي المحترف أن يخلط بين القراءة الصحيحة والإثارة في الأداء لجذب المشاهد».
٦- - http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/271932/