بالنسبة إلى مدير برنامج البيئة والتغيّر المناخي في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، نديم فرج الله، تتجذّر المشكلة الأساسيّة في عدم تطبيق السياسات المعتمدة، حتى أكثر من السياسات نفسها. ويوضح فرج الله قائلاً: إنّ "مياه الصرف الصحي غير المعالجة هي المصدر الرئيسي لتلوّث المياه في لبنان". ومع ذلك، فقد جرى بناء محطات معالجة مياه الصرف الصحي في لبنان من دون أن تضمن الجهات المانحة ما إذا كان المستفيدون الرئيسيّون، وهم مجالس المياه، قادرين على إدارتها بمجرد اكتمال بنائها. حتى اليوم، يرفض عددٌ كبير من هذه المكاتب تولّي بعض من هذه البنى التحتية بسبب نقص الميزانية لضمان الصيانة وشراء قطع الغيار أو زيت التدفئة للمولدات من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم وجود موظفين متخصصين ومدربين لهذا النوع من المهام".
وينتقد المدرّس والباحث رولان رياشي بشدّة المشاريع التي ترتّبت عنها مبالغ كبيرة والتي لم تأتِ بأيّ نتائج. وبحسب رياشي، "إنّ مشاريع محطات معالجة مياه الصرف الصحي الرئيسيّة، أي حوالى 60 مشروعاً بشكل رئيسي على طول الساحل، إما أنها غير عاملة أو تعمل بقوى عاملة محدودة جداً، ويمكننا حتى التحدث عن المشاريع الوهمية". وفي هذا الصدد، يلقي الخبير باللوم على "عدم كفاءة أجهزة الدولة اللبنانية وفسادها، والتمويل الدولي الذي لا يأخذ في الاعتبار غياب النتائج"، مذكّراً بأنه جرى استثمار مليار دولار في محطات تكرير المياه ليست شغالة بكل بساطة. كما يشير إلى استراتيجيّة المياه الوطنية التي تركز بشكل أساسي على بناء السدود، حيث لا اعتبار ببساطة لتكرير مياه الصرف الصحي، ودورها الأساسي في حماية الموارد المائية.
ويشير فرج الله إلى أنّ تصميم محطات تكرير مياه الصرف الصحي يفتقر إلى رؤية الطاقة، بمعنى أن التقنيات المختارة لا تأخذ في الاعتبار توفير الطاقة. وتظهر مشكلة رئيسيّة أخرى، بحسب قوله، تتمثل في عدم السيطرة على التصريفات الصناعية الشديدة السمّية، التي هي "قاتلة للكائنات الدقيقة المستخدمة في محطات تكرير مياه الصرف الصحي، ما يعيق معالجة مياه الصرف الصحي البلدية (الآتية من المنازل بشكل أساسي) التي تصل إلى المحطة".
التأثيرات على جميع المستويات
التلوّث الناتج من غياب السياسات الملائمة واسع الانتشار وخطير. ويلاحظ رياشي أنه في المناطق الجبليّة، فإنّ طبقات المياه الجوفية، التي يجب حمايتها كمصادر لإمداد المياه لعدد كبير من المواطنين،غالباً ما تكون ملوّثة بسبب خزّانات الصرف الصحي التابعة للمباني الشاهقة، التي نادراً ما تكون متصلة بشبكات الصرف الصحي. أما في المدن الساحلية، فغالباً ما تكون المباني متصلة بالشبكات، لكن مياه الصرف الصحي التي يجري جمعها لا تزال تنتهي من دون أن تُعالج في البحر. يحصي رياشي ما لا يقل عن 55 مقلباً لمياه الصرف الصحي غير المعالَجة على الساحل، أي أربعة كيلومترات.
وذكر فرج الله عواقب وخيمة على السكان. وقال: "يتمثل التأثير الأسوأ في انتشار الأمراض المرتبطة بالمياه، مثل التيفوئيد والكوليرا والأمراض الجلدية وحالات التهاب الكبد...". ونواجه تأثيراً آخر هو تكلفة جلب المياه إلى المنازل، التي تزداد بشكل كبير حيث يتعيّن على مجالس المياه معالجة مياه الشرب. وكان من الممكن توفير هذه التكلفة الإضافية لو كانت المصادر أقل تلوّثاً".
من وجهة نظر بيئيّة، يشير فرج الله إلى أنّ "التلوث يؤثر على الحياة البحرية، فهو يقتل الأسماك والبرمائيّات والغطاء النباتي ويؤدي إلى فقدان التنوّع البيولوجي وكذلك مصادر الإمداد للصيادين". ويلفت إلى المشكلة الأساسية المتمثلة في التلوّث من المصادر الجوفية "التي تدوم لفترة أطول بكثير من مشكلة المجاري المائيّة السطحيّة، ومعالجتها باهظة التكلفة".
الطاقات المتجدّدة في المحطات
مشكلة تلوّث المياه في لبنان آخذة في الإزدياد، ولكن الحلول موجودة سواء كانت إدارية أو فنية أو سياسية. من وجهة نظر فنية، يدعو نديم فرج الله إلى ضرورة ربط محطات معالجة مياه الصرف الصحي بشبكات الصرف الصحي بشكل صحيح، وإلا فإنّ التصريف غير المعالج لمياه الصرف الصحي سيستمر في تلويث المجاري المائية والمياه والبحر، كما يصرّ على ضرورة توفير الطاقة مع ضمان معالجة مياه الصرف الصحي وفقاً للمعايير. "يجب أن تكون هذه المحطات مجهزة بمصادر طاقة متجدّدة، مثل الطاقة الكهروضوئية (الشمسيّة) أو الهضم اللاهوائي للحمأة من محطات المعالجة (الجزء الصلب المتبقي بعد المعالجة). يمكننا الاستفادة من هذه المواد العضوية، التي تطلق غاز الميثان (غاز يمكن استخدامه لتشغيل التوربينات)، لإنتاج الكهرباء اللازمة لتشغيل المحطة".
على المستوى الإداري، يوصي الخبير بأنه إذا اختارت مجالس المياه توقيع عقود مع مقاولين لإدارة هذه المحطات، أن تبني هذه العقود ليس على الأداء الفني الجيّد فحسب، ولكن أيضاً على التزامات التوفير في تكلفة المعالجة. فسيؤدي ذلك إلى دفع المقاولين المعنيين لضمان تحسين الأداء وتقليل خسائر الطاقة غير الضرورية.
أما على المستوى البيئي، فيعتقد رياشي أنّ الحل قد يكمن في حماية منبع الينابيع، مثل ربط القرى والمجمّعات الجبليّة الكبيرة بشبكات الصرف الصحي، من خلال إلغاء خزّانات الصرف الصحي. ويذكّر الخبير أيضاً بفكرة الاستفادة من الجيومورفولوجيا في الدولة، من خلال استغلال قوة جاذبية الينابيع في المرتفعات من أجل إمداد السكان، بدلًا من الاعتماد على ضخ المياه التي تمثّل تكلفة كبيرة بالنسبة إلى المكاتب المعنية بالمياه والتي تستهلك كمية كبيرة من الطاقة.
يُعدّ تلوّث المياه مشكلة متعددة الأبعاد وناتجة من السياسات الفاشلة والممارسات الفاسدة، ولا يمكن إحداث تغيير ملحوظ إلا من خلال إرادة سياسية تضع هذا المجال في أعلى قائمة الأولويات.