العلاج يحتاج مبلغًا مرقومًا يفوق قدرة هذه العائلة المتواضعة والاستسلام ليس خيارًا مطروحًا على الطاولة. سيقصد فادي الأبواب لتأمين المال اللازم، أخذ إجازة من عمله ليقوم بجولة على مؤسسات الدولة منذ ساعات الصباح الأولى.
***
قام من فراشه مثقلاً بهموم الدنيا التي أرخت ظلالها على كتفيه. لبس ما تيسّر له رؤيته من خزانته. نظر إلى عفيف بعينين ملؤهما الرجاء والشفقة، ومضى.
في تمام السابعة، وقف إلى جانب الطريق ينتظر "ڤانًا" يقلّه إلى الوزارة المنشودة. أقبل ڤانٌ، أكل الدهر عليه وشرب، بسرعة مهولة تتبعه سحابةٌ سوداء مظلمة. ركب فيه معيّة كثيرٍ من العمّال وفقراء الحال. لم تمضي لحظات حتى دخل الڤان في منافسة شديدة وحربٍ ضروس مع آخر من بني جنسه رغبةً في الاستزادة من الركّاب. يتجرّد ابن آدم من إنسانيّته أمام هذين السائقين ويصبح مجرّد "عشرين ألف ليرة" متحرّكة تنبض بالحياة.
"يبدو أنّنا بحاجة لخطّة نقلٍ جماعي تنظّم عمل هذه الوسائل وتخفّف من انبعاثاتها وتدرس حاجة المجتمع آخذةً بعين الاعتبار الكلفة الاقتصادية وقيمة الوقت..."
في ظلّ الموسيقى العالية من مسجّلة السائق، لم ير فادي لنفسه متنفّسًا إلا النظر من شبّاكه والتأمّل.
***
بعيدًا حدّق نحو الأفق.
في السماء طيور النورس وفي البحر سفن متجاورات. ولكن مهلاً أين الشاطئ ورماله؟
لقد غطّت أكوام النفايات كل شيء وشكّلت جبالاً منيعة صارت جزءًا من تضاريس المنطقة ومعالمها. بقيّة الشاطئ تمّت مصادرته من رجال المال والأعمال وأقاموا عليه منتجعات ومسابح لا سبيل للفقير إليها.
"على الدولة إقامة خطط متلاحقة لفرز النفايات وإعادة تدويرها ومن ثمّ تنظيف الشواطئ فتنظيم الممتلكات العامّة..."
وبينما هو سارح في أفكاره ارتطم رأسه بسقف الفان.
"يبدو أنّ هذه الجورة جديدة لأنّي أحفظ جور هذه الطريق وهي 14 بعدد مقاعد هذه الآليّة" يردّد صاحب الفان.
الطرقات هي الأخرى معضلة يجب الالتفات إليها.
نظر إلى عقارب ساعته فإذا هي تشير إلى الثامنة. أيعقل أنّ مسافةً قصيرةً تحتاج لهذا الكم الهائل من الوقت؟ إنّها زحمةُ السير وفائضُ السيارات: في كل سيارةٍ شخصٌ واحد آثر البرستيج.
"لو أنّ كل أربعة من المتجاورين نزلوا في سيارةٍ واحدة ألم يكن ذلك ليوفّر الوقت والمال والتلوّث؟"
توقّف الڤان وترجّل فادي أمام مبنًى مُتهالك عليه أمارات التبعية لمؤسسات الدولة. صعّد بنظره ونزل، وراح يعدّ الطوابق "واحد، اثنين،..ثمانية، تسعة لا بل ثمانية... واحد، اثنين، ثلاثة،... ثمانية " نعم لم تخنه عيناه بعد، ثمانية طوابق.
***
دخل متأبّطًا ملفًّا سميكًا يعجّ بالأوراق وراح يتصفّح وجوه الناس لعلّه يهتدي إلى "مدام سميرة". هي "الكلّ بالكلّ" في المبنى وكلمتها "لا تصير اثنتين". أرشده بعض الحاضرين إلى أنّ مكتبها في الطابق الخامس. استبشر خيرًا عند رؤيته لباب المصعد وقصده متلهّفًا وما إن لمس مقبض الباب حتّى عاجَلهُ عجوزٌ يتهادى بين عكّازين بضحكةٍ ساخرة "كهرباء في لبنان؟ يبدو أنّك نعسٌ يا بنيّ! ما زلت شابًّا. الدرج رياضة". بادل العجوز بابتسامة باهتة وجرّ أذيال الخيبة على درجات المبنى.
وصل إلى المكان المنشود لاهثًا مُنهكًا. تراءى له أربعٌ من النسوة يضحكن ويتحادثن وقد فرشن المأكولات ممّا لذّ وطاب أمام الحواسيب وبجانب معاملات النّاس.
أوقف صوت الضحكات وطحن الطعام سؤال فادي" مدام سميرة موجودة؟ "
نظرن إليه، وتولّت إحداهنّ الإجابة "لن تأتي قبل التاسعة، انتظرها في الخارج ".
لا حلّ أمام الرجل البائس سوى الانتظار، وضع ملفّه على الدرج وتنهّد وجلس. استغلّ الوقت الضائع في التفكير بما رآه من ملمّات في هذه الوزارة من انقطاع الكهرباء وعدم التزام الموظفين بالدوام الرسمي وضوابط العمل وأخلاقيّاته. "الحل بإعادة هيكلة القطاع العام وتفعيل دور الرقابة والتفتيش".
وفي حين كان يرسم خطط الإصلاح في باله، إذ بالموظّفة المنشودة تطلّ كالمطر الذي يروي آماله اليابسة.
أمعنت النظر في الملف وقلّبته يمنةً ويسرة.
"أوراقك كاملة، ولكنك تحتاج لعددٍ من الطوابع المالية، ومُرّ على الطابق الثالث لإمضاء المراقب، ومن ثمّ عرّج على الطابق الخامس للختم الإداري".
تلقّى فادي الفرمانات الإدارية ولكنّ سمْعَه توقّف عند الطوابع.
"وأين أجد هذه الطوابع؟"
شغّلت هذه الموظّفة خاصيّة الردّ الآلي لرابطة اللامباليين:
"لا أدري، أمر لا يعنيني"
خرج من عندها والغضب يكوي فؤاده وراح يهيم على وجهه باحثًا عن مرشد يعينه في مصابه. ولمّا لم يجد، وجلس على حافة مقعدٍ تعلوه معالم البؤس والشقاء، أقبل إليه رجلٌ تبدو عليه معالم التجارة واستفهمه عن حاله فأعلمه بالنبأ “بسيطة، الحلّ معي" وأخرج من جعبته طوابع من كل الألوان والفئات. استبشر فادي خيرًا وأخرج المال المناسب لسعرها.
تبيّن أنّ الرجل يستغلّ حاجة النّاس وانقطاع الطوابع ليبيعها بأثمانٍ خياليّة. إنّها عيّنة واضحة للاحتكار وإذلال الناس.
وبعد جهدٍ وضنكٍ وتعب، أنجز أغلب المهمّات وأراد معرفة وقت سير المعاملة فأبلغوه أنها تحتاج لبضعة أسابيع.
-"بضعة أسابيع!! أخي مريض ولا يستطيع التحمّل"
-"يمكنك تقصير المدّة إن شئت"
يريد الموظّف رشوةً ولكنّه للمفارقة يرفض مصطلح الرشوة، ويعبّر عنها بالهدية للشباب الموظفين الذين سيبذلون مجهودًا لإنجاز الأوراق.
هذه عيّنة صغيرة من يوميّات بائسٍ من البؤساء في بلادنا.
يحلم فادي بدولةٍ عادلة مقتدرة لا يشاهد فيها مظاهر الفساد والرجعيّة، ويسود فيها نظام القانون والمساواة. دولة تعالج مريض السرطان على نفقتها، وتوفّر وسائل نقل جماعي على شبكة طرقات سليمة. دولة البيئة فيها أولويّة وليست رفاهيّة، فيها نزاهة وشفافيّة مطلقة.