تمدّدت ثورة تونس لتطال مصر، فليبيا، واليمن، والجزائر، والسودان، وسوريا، ولبنان، وغيرهم، مشكّلةً ما عُرِف بـ"الربيع العربي". في لبنان، كان تطبيق "فيسبوك" هو الرائج بين أيادي المواطنين، الذين تابعوا من خلاله تطوّرات الأحداث التونسية حينئذٍ وفي دولٍ عربية أخرى، فتأثّروا بها. كان نشر "بوست" على هذا التطبيق منفساً كافياً للتعبير عن الاستياء من تركيبة النظام والقوانين غير المعدّلة، فنشروا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وتواصل زملاء الجامعة والأصدقاء وفئة الشباب خصوصاً مع بعضهم البعض لتوحيد الشعارات والمطالب وتحديد المكان والزمان الذين سينطلقون منه. تعقيباً على ذلك، استجاب المئات من اللبنانيين(أصدقاء الأصدقاء وعائلاتهم) على الدعوات التي نُشِرَت. وأظهرت صفحة على الفيسبوك أن نحو 2656 شخصاً اعتزموا المشاركة "Interested"، لكنّ المئات منهم هم من شاركوا في احتجاجات شباط/ فبراير 2011.
معادلة: من إعلام يستميل الشباب إلى العكس
إنطلاقاً من ذلك، يمكننا القول أنّ وسائل التواصل الاجتماعي في مرحلةٍ ما استمالت الشباب نحوها، لكنّنها اليوم نشهد استمالة الشباب لهذا المنصّات، أيّ أن المعادلة انقلبت. سعت الكثير من وسائل الإعلام التقليديّة التواجد على المساحات الرقمية، ولجأت إلى طرح أسئلة مثلاً على متابعيها. وأعطى بعضهم وقتاً لهؤلاء للتصويت على قضيّة ما تُنمّي التواصل بين المتابعين الذين بغالبيّتهم من فئة الشباب. وهو ما ساهم في صعود "التريند"، ونشر "الهاشتاغ" للتنديد أو التأييد لفكرةٍ ما. إذ إنّنا نجد على "فيسبوك" مثلاً مجموعات شبابيّة تُنشأ لإقامة حوارات بينهم على المنصّة، أو تشكيل رأي عام يخصّهم. وكثيراً ما تنطلق مبادرات شبابيّة رقميّة، تم تحديدها مباشرة من الشباب وإليهم.
وفي هذا السياق، يشير الصحافي ومدقّق الحقائق محمود غزيّل إلى أنّ مع توسّع المنصّات وتزايد وتيرة الانترنت في المنطقة العربية وحول العالم، لم يعد باستطاعة أي شخص أن يبقى متمسّكاً بشاشة التلفاز أو الجريدة الورقية أو ما شابه. إنّما بات الإعلام متاحاً على الأجهزة الذكية، وبتصاميم بسيطة، للتعبير عن آراء الشباب.
مع وجود غالبيّة الشباب على "الموبايل"، لاحظت وسائل الإعلام التقليدية بأنّها تفتقد عنصراً أساسياً وهو عنصر الشباب. تحاول المؤسسات الإعلامية التقليدية أن "تشدّ العصب" لتُوازن بين برامجها التقليدية وموادها الرقمية. "فظهرت "الهاشتاغات" المرتبطة بالبرامج التلفزيونية لتطال فئة الشباب، وبذلك تكون الوسائل التقليدية حاولت التقليل من الفجوة الحاصلة بين تقليديّتها ورقمنتها"، يردف غزيّل. إذ تحوّلت هذه الوسائل لتقول بأنّ ليس عليها السعي لجذب الناس المتواجدين على وسائل الإعلام التقليدية فقط، بل كذلك الأشخاص الذين يتفاعلون معها على الوسائل الرقمية.
الشباب بوصلة لتعزيز الحوار "السَّلِس"
بعد أعوام من التغطية الإعلامية التقليدية، أطلقت قناة الجزيرة حسابها على تطبيق "تيكتوك" منذ نحو شهرين. وكانت بحسب دراسةأجرتها "Influencer Marketing Hub" بالشراكة مع "Refersion" في العام 2022، يضم "تيكتوك" نحو 39.91% من فئة الشباب (18 - 24 سنة)، وهذا مؤشّر واضح على طموح وسائل الإعلام لاستمالة عنصر الشباب. لجأت "الجزيرة" إلى رقمنة محتواها المُتَلفَز عبر إطلاق منصّات على وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزها "ميدان"، التي تنشر وثائقيات، و"AJ+ بنسخيتها الإنجليزية والعربية.
بمحتوى بصري وسمعي مبسّط وعدد دقائق محدودة، ساهمت الجزيرة بالوصول نحو الشباب. القناة التي يتابعها أكثر من 45 مليون مشاهد تلفزيونياً، وجدت أنّ ملاحقة الفئة الأكثر اندفاعاً للجدال والمناقشة، هو ميزة إضافية لها. "AJ+" قلّدها كثيرون لمستويَي الأصالة والجدّة التي امتلكتها، فقد نجد في "الكومنتات" وحدها مساحات نقاشية واسعة بناءً على المادة الإعلامية المنشورة. ومن تلك الأخيرة، برامج تحليليّة لم تكن لم تُعرَض بطريقة تقليديّة، باستخدام استراتيجيّة "الخروج عن المألوف" التي تستميل الشباب غالباً، كمثل برنامج "السليط الإخباري" الذي يضمّ طاقم عمل شبابي.
القناة نفسها، أنشأت "الجزيرة بودكاست"، في برامج سياسية، وتاريخية، واجتماعية، وفنية، وغيرها، تجذب المستمعين الشباب خصوصاً بعيداً عن العرض التقليدي الذي لا يستهوي هذه الفئة. بهذه الاستراتيجية، يكون "الحوار" تحصيل حاصل لدى الشباب عندما يخزّنون هذه المعلومات التي تنتقل إليهم بطريقة "سلسة"، ويفكّكون تلك الشيفرة الإعلامية بطريقة مبسّطة وسريعة.
وبحسب دراسة أجرتها جمعيّة "National Literacy Trust" عن "مشاركة الشباب في البودكاست للعام 2021" في المملكة المتحدة، فإنّ 63% ممّن تتراوح أعمارهم بين 16 و34 عاماً استمعوا إلى محتوى بودكاست. إذ رأي 1 من كل مستَمعين اثنين (54.2%) أن إحدى فوائد الإستماع للبودكاست هي "سماعهم لآراء وأفكار مختلف الناس"، وهو بالطّبع ما يصوب نحو الدافعية لتعزيز مهارات الحوار، إن صحّ التعبير.
"حوارات بناء السلام وسلسلة البودكاست تمكّن وتشجع الأطفال والشباب على استكشاف مشاعرهم ولعب دور نشط في إعادة أقرانهم ومجتمعاتهم معًا"، قالت ممثلّة "اليونيسف" في جنوب إفريقيا كريستين موهيجانا في مؤتمر صحافي في 11 شباط/ فبراير 2022. إذ أطلقت المنظمة سلسلة بودكاست مكونة من ثلاثة أجزاء فعّلت النقاشات بين الشباب لـ"التعبير عن أنفسهم ومشاركة الآراء والحلول حول الصحة العقلية وتأثير الاضطرابات"، وهو ما لاقى تفاعلاً من المشاركين فيها.
وفي السياق نفسه، يمكن للحوار أن يكون بأشكال عدّة، لمن يمتلك هوى فنّي أيضاً. "أم كلثوم وخبايا العظمة"، من منّا كان ليتخيّل أنّ يهتم فئة الشباب بهذه الحلقة من بودكاست "رموز" لـ"الجزيرة" التي تروي فيها حياة مطربة قديمة سمعها أجدادنا منذ سنينٍ خلت؟ وهو ما عقبه أسئلة متردّدة على لسان الجمهور الشبابي عن الخفايا التي عرضتها تلك الحلقة، وراح بعضهم يتناقش فيها ويعرضون حقائق عن مسيرة أم كلثوم عبر حساباتهم على وسائل التواصل الإجتماعي ليدحض أو يؤكد.
"أمنت مواقع التواصل الاجتماعي مروحة من المواضيع التي من الممكن أن تُطرح على الرأي العام بأريحية من دون أي قيود"، يقول المسؤول الإعلامي لمؤسسة سمير قصير جاد شحرور. في وقت تعيش فيه البلاد العربية أزمات حياتية حالكة، أمّنت وسائل التواصل الاجتماعي تغطية للمظاهرات التي انطلق فيها الشباب بعيداً عن التقييد الحكومي أو الرأس المالي.
منصّات رقمية صاعدة: "للتفكير مرة أخرى"
في أثناء انتفاضة 17 تشرين/ أكتوبر 2019 في لبنان، لم ينتظر كُثُر مقابلات الـ"Vox Pop" التي تعتمدها القنوات التلفزيونية في مثل هذه أحداث. إنّما اختار أولئك، ممّن أرادوا تبادل آرائهم السياسيّة، منصّات شبيهة بـ"تويتر" أو "فيسبوك" أو تطبيق المكالمات الصوتية الجماعية "كلاب هاوس Clubhouse"، من دون أن يقيّدهم "الهواء الإعلامي" الذي تؤمّنه وسيلة معينة. وفي هذه الفترة تحديداً، راجت تلك المنصة الرقمية السمعية بين أواسط اللبنانيين، ليُنشئ كلٍّ منهم "غرفة room" بعنوان حواريّ معيّن، وشارك فيها حينذئذٍ إعلاميين ليناقشوا الشباب في القضايا السياسية التي نبعت من 17 تشرين/ أكتوبر.
فهم الإعلام الجديد أن المحتوى الإعلامي ليس شرطاً أن يكون على جريدة أو راديو أو تلفزيون، بل الكترونياً. وأشار شحرور أن صفحات مثل "ميغافون Megaphone"، و"درج"، و"رصيفـ22" وغيرها، تستمدّ قوّتها في المحتوى الذي يُنشر على "إنستجرام" و"فيسبوك" و"تويتر" أو عبر الموقع الالكتروني.
كل هذه المنصات "تسعى للإضاءة على هواجس الشباب ومنها مواضيع تتعلّق بمجتمع الميم/ عين مثلاً". نشر محتوى يتعلّق بفئة من الأقليّات، وشبابيّة أيضاً، صُنّفت كـ"تابو" في مجتمعاتنا، هو وحده عامل من عوامل التفكير النقدي وتعزيز التساؤلات والحوار. والمنصّات هذه نفسها، تستضيف "كويريّين" مثلاً لتفسح لهم هذا المجال للتعبير عن آرائهم وإدخال المفاهيم التي يؤمنون بها بعيداً عن "الحوار من طرف واحد" الذي كانت تعزّزه غالبيّة المؤسسات الإعلامية التقليدية.
وفي المقابل، يضيف شحرور أنّ المواقع نفسها "أعطت فرصة للمنظمات السياسية القمعية أن تخلق جيوشاً إلكترونية" تحدّ من مفاهيم الحوار المعزّزة لحرية التعبير. وهذا جزء لا يتجزأ من الواقع اللبناني، إذ نجد هذه الجيوش تُهاجم كل من يروج لحقوق الإنسان بحجة "علاقتهم بالسفارات أو العمالة"، بحسب شحرور. بينما أمّن ذلك لمنظمات عالمية مجالاً لنشر حملات تضامن متعلقة بحقوق الإنسان في كل شرائح الأرض.
شكّل برنامج "جعفر توك"، الذي تعرضه قناة "دويتشه فيلله" الألمانية تلفزيونياً ورقمياً، مساحة وافية لتبادل الحوار بين الآراء المختلفة. ولطالما تعرّض هذا البرنامج لانتقادات لاذعة من بعض المتابعين لغوصه في المواضيع التي لم يتم الحوار بها على الوسائل بشكل "عاديّ". "الاختلاف بداية الحوار"، هو الشعار الذي اختاره البرنامج ليتناول قضايا النساء، ومجتمع الـLGBTQ+، ومواضيع التحرّر من السلطة الدينيّة أو الأبوية، كلّها افكار طرحها البرنامج. إذ أعدّ البرنامج حواراته بطريقة رأي مؤيّد مقابل رأي معارض، وكان يلجأ لعرض بعض "الكومنتات" أيضاً في الحلقات. وأتاح للضيوف الوقت الزمني نفسه للتعبير عن أفكارهم بطريقة حواريّة متساوية. وهنا، يمكننا القول أنّ استخدام أصول الحوار في البرامج الرقمية، هو سرّ من أسرار نجاحها في تعزيز مبدأ "التفكير مرّة أخرى" في القضايا المتجذّرة لدى المجتمعات.
إذا نظرنا إلى الوسائط الرقمية من طرفين، فإنها بالطّبع ستحوي على بعض الثغرات التي عزّزت خطاب الكراهية في الحوارات التي تُقام بواسطتها. إلّا أنّنا يمكننا القول أنّ هذا يقع على عاتق المحاورين أنفسهم، والمنصة نفسها، ولا يلغي الدور الريادي التي تلعبه تلك الوسائل في تعزيز الحوار. إذ وجد كُثُر مساحات آمنة لعرض آرائهم وتقبّل نقدها أو مخالفتها، أو حتّى تأييدها.
وتلك المنصات التي نشأت لاستمالة الحوارات الشبابيّة، أو الوسائل التي تحوّلت إلى رقمية، خيرُ دليلٍ على حاجة السوق الحياتي للحوارات. يأتي ذلك في ظل تصاعد قوّة البودكاست والمحتوى الرّقمي الذي بات يُحدَّد على "هوى الشباب". وبسبب الحرية التي أصبحت متاحة على تلك الوسائط، ساهمت الوسائل الإعلامية بخلق برامج تستهوي هذه الفئة، وتبدّلت لغة الإعلام لتُدرج الحوار التفاعلي في موادها. وكل هذه المعطيات، هي مسار بنائي لمستقبل رقمي شبابي اندماجي يستهوي التحاور في المسموح والممنوع.