مما لا شك فيه أن القوى السياسية اللبنانية تعاطت مع قضية اللجوء السوري بكثير من الرعونة، بل بكثير من السياسة، ومن خلال نظرة كل فريق إلى واقع ما يجري في دمشق. فهناك محور مع الممانعة ومحور ضده، وكلاهما كان له الدور في فشل الوصول إلى تعاطٍ إنساني - واقعي، بعيداً عن كل الحسابات السياسية التي كانت السبب الأساس في منع إنشاء مخيمات فيها الحد الأدنى من مقوّمات الحياة. وقد دفع النازح ثمن هذا الانقسام، وهو يدفع اليوم ثمن استخفاف الحكومة ومن فيها، كما يدفع ثمن ما يحصل على الحدود نتيجة تدخل «حزب اللّه» عسكرياً إلى جانب النظام السوري، وحسابات المسلحين الموجودين في القلمون، وما نجم عن معارك عرسال من تضييق على اللاجئين وتحميلهم مسؤولية هويتهم السورية، لا أكثر.
في بدء اللجوء، أي منذ ما يقارب الثلاث سنوات، سُرّب كلام عن نيّة تيّار «المستقبل» دعم إقامة مخيمات للنازحين. ثُم سريعاً، انتشر نواب «المستقبل» على المنابر الإعلامية وغير الإعلامية ينفون هذه النيّة. توازياً، كان فريق 8 آذار يهوّل من اخطار إنشاء مخيّمات، لأنها في رأيهم ستتحوّل إلى أماكن لإيواء المسلحين وتدريبهم قبل عودتهم للقتال إلى جانب من سمّوهم، كما سمّاهم النظام السوري، الجماعات الإرهابية.
في هذه السنوات الثلاث، كان الفريق المسيحي في 8 آذار، أي «التيّار الوطني الحر»، يحاول أن يكسب مسيحياً على حساب اللاجئين. وهو حمل شعار حماية الأقليّات ليطالب منذ السنة الأولى لبدء اللجوء، بإقفال الحدود، وإرسال من أصبحوا هنا إلى مخيمات داخل الأراضي السورية. ثُم ذهب هذا التيّار أبعد من حليفه «حزب اللّه» ومن يدور في فلكه، إذ ابتدع ودائماً خدمة لشعبيّته، كذبة توطين اللاجئين، مروّجاً أن مطلب إنشاء المخيّمات يصبّ في هذا الإطار، واتفق معه في ذلك حزب الكتائب المحسوب على فريق 14 آذار إذ قال إنه يُناصر حق الإنسان السوري في تقرير مصيره.
في المقابل، فإن هرب فريق 14 آذار من مسؤولية إنشاء المخيمات لم تستتبعه محاولات جادة أو ضغط ما من أجل تنظيم النازحين وإيوائهم، وكان بعض هذا الفريق يُفضل التقاط صور له وهو يجول في أماكن النزوح، على أن يفعل شيئاً ملموساً باتجاه تمكين هذا النازح من الصمود. وهذا الصمود ضروري إذا كان هذا الفريق يرغب في سقوط نظام الأسد، الذي يعاديه منذ عامي 2004 - 2005.
أما على المستوى الرسمي فلم تقم الحكومة، سواء تلك التي ترأسها نجيب ميقاتي، أم التي يترأسها حالياً تمام سلام، بالكثير من الجهد من أجل النازحين. فعلى الطاولة في السرايا، حضرت أيضاً الأهواء السياسية لكل فريق، لترسو في النهاية على خطة أقل ما يُقال فيها إنها فاشلة، مع سلطة اعتادت على تأجيل الملفات المهمّة، إلى حين إقرارها بطريقة عرجاء، وبتأخير يُقارب الثلاث سنوات، دفع في خلالها النازح السوري الثمن، كما دفع المواطن اللبناني ثمن هذا الغياب الحكومي عن معالجة ملف بهذه الأهمية.
يهرب النازح السوري من الموت المُستمر في سوريا، ليكتشف أن القضايا الإنسانيّة في لبنان خاضعة دائماً للأهواء السياسية والحسابات المحليّة. فهو كنازح، شُرّح على طاولة الانقسام اللبناني حتى صار العزم على نزعه من هذه الصفة وسيلة للهرب من عُقم السلطة وعدم قُدرتها على التعاطي مع الإنسان، إلاّ بصفته سلعة في سوق الحسابات الرقمية والجغرافية والديموغرافية، لكل فئة من فئات ما يُسمّى الإجماع اللبناني الذي أفضى إلى حكومة قيل إنها لـ«المصلحة الوطنية».
بعد ثلاث سنوات من بدء النزوح، تُشجع الحكومة اللبنانية التي تُمثل كل الأطياف السياسية تقريباً، على إقامة مُخيمات للاجئين في الداخل السوري، يعني أن الهارب من الموت ومن الاقتتال الدائر على أرضه، يُمكنه اللجوء إلى مُخيم حدودي لن يكون بمنأى عن النار الملتهبة في أنحاء سوريا. إنها خلاصة لهذا الكمّ من اللّامبالاة بحق قضية إنسانية، أدخلها اللبنانيون في زواريب عجزهم عن الاتفاق على أي شي.
فبمُجرد أن يقرأ اللاجئ السوري مثلاً بيان كتلة «المستقبل» التي لطالما اشارت الى انها تقف إلى جانبه، والذي تُهنّئ من خلاله الحكومة على إقرارها «ورقة النازحين»، يُدرك أنه أصبح وحيداً، وأن الخطاب العنصري صار معمّماً على الجميع. فحتى الهواء، قد يقاسمونه إياه لاحقاً أو الآن، لا فرق.