عن وجوه بيروت المتقلّبة: نهرب منها إليها

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 شباط 15 6 دقائق للقراءة
عن وجوه بيروت المتقلّبة: نهرب منها إليها
© داليا خميسي
غالبأ ما ترتبط الممارسة العنصرية بقلة معرفة ممارسيها لضحاياهم، فبينما تكون المعرفة عملية تنويرية استيعابيّة تحيط بالظروف والتاريخ والخلفيات، ترتبط قلّتها أو التقليل المتعمّد منها بالموقف التعميمي والجاهز. وفي الحالة اللبنانية - السورية يظهر أن اللبنانيين يتفرّدون بهذا التسطيح المعرفي تجاه اللاجئين السّوريين. وفي الحقيقة، فإن شرط جهل الآخر يستوفى من قبل طرفي العلاقة، إلا أن الممارسة غالباً ما تظهر أحادية الجانب.

في البروفة الأولى لمسرحيتنا "أنتيغون"، التي قدمت على مسرح المدينة في بيروت منتصف شهر كانون الأول المنصرم، وقفت في مواجهة 43 امرأة سورية قدمن من مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، ليشاركن في إعادة تأويل تراجيديا سوفوكليس. وعلى لوح أبيض صغير، قمت بكتابة السؤال التالي: «لماذا ترغين في الأشتراك بهذه المسرحية؟». لم أكن أتوقع أن من بين الإجابات التي تنوعت بين رغبتهن باكتشاف المسرح، ومشاركة قصص الحرب وشقاء حياة اللجوء، أن تكون أكثر الإجابات تكراراً، تلك التي تعلن رغبتهن في مخاطبة جمهور لبناني يعتقدن أنه يراهن فقط بوصفهن معدمات، جاهلات، يحملن أفكارا محافظة ومغلقة. «بدنا نقول للجمهور اللبناني إنو كان عنا حياة منيحة وبيوت وأشغال، ونحنا مالنا شحادين، وعنا كرامة»، قالت منى التي نزحت من بيتها في الريف الدمشقي، بعدما فقدت ابنأ إثر صراع مرير مع المرض في ظروف حصار قاسية.

«بدي يشوفونا بالصورة اللي بتشبهنا أكتر»، قالت وفاء التي هجرت مع عائلتها حيّها في أطراف حلب الذي تحوّل خط جبهة، وهي أم لخمسة أولاد، كانت تدير بقاليّة ملحقة ببيتهم الذي لا تعرف اليوم ماذا حل به. والحق أن إصرار النساء على إعطاء الأولوية لهذا الخطاب كان مفاجئاً، إذا إنني توقعت أن تكون حكايات الحرب والفقدان حافزهن الأول للبوح ولصناعة نسختنا عن «أنتيغون»٠

طوال ثلاثة أشهر، عمر مشروعنا المسرحي، كنت أتعلم كيف تشكل المواجهات شبه اليومية التي كانت النسوة يخضنها في وجه تعليقات عنصرية أو نظرات متعالية، جزءا كبيرا من سرديات الاضطهاد التي حملنها. ليست وحدها إذن حكايات القمع والحرب وخسارة الأحبة التي كانت حاضرة في البروفات، فقممص السوريين المسحوقين في كانتونات الفقر البيروتية كانت كذلك حاضرة بقوة معنا. ووجدت نفسي أنا السوري إبن الطبقة الوسطى، اللاجىء أيضاً في بيروت، أتعلم من خلال العمل معهن، كيف تقوم العنصرية في جوهرها عل معايير طبقية شديدة الرسوخ. فمروري في الشارع ببساطة لم يكن كمرورهن، ودوائري الأجتماعية مهما تنوعت تبقى مختلغة عن دوائرهن. ويجدر القول أن السوريين في لبنان، كما اللبنانيون بالطبع، طبقات، ويتجوّلون في دوائر تكاد تكون محكمة الإغلاق.

عندما توقف الباص الذي يقل النساء المتدربات لينزلهن في شارع الجميزة، حيث كنا نعمل ذلك اليوم، أدى هذا إلى تعطل حركة السير للحظات، كانت كافية ليجن جنون سيدة تقود سيارتها الفارهة وتصرخ بالنساء: «شو جابكن لهون إنتو؟» كان هذا المشهد محرضاً لآخرين في الشارع ليتدخلوا، فيصبّوا بدورهم غضبهم على النساء بمظهرهن الغريب عن هذا الحي. غضب السيدة ومن واكبها لاحقاً، كان يضمر دهشة ممزوجة باستنكار. فماذا تفعل مجموعة من النسوة المحجبات بملابسهن المتواضعة في هذا المكان من بيروت؟ لماذا يتجمعن هنا؟ أليس لهؤلاء أماكن معتادة يرتادونها ولا يخرجون منها؟ كنت ومن معي قد سبقنا المجموعة إلى مكان التدريب ففاتنا حضور هذه الاستعراض القصير في الجميزة. كانت فاطمة أولى الداخلات من النساء، اقربت مني لتقول بابتسامة حزينة: «ءن جد شو عم بنعمل هون نحن؟».

تكرر الأمر في كل مكان تقريباً ذهبنا إليه في المدينة، وبالقدر الذي كان يربكني حدوث ذلك، كان يزيد النساء إصراراً عل المضي قدماً في عملهن. في غالب الأمر كن يستحضرن هذه الحوادث كنوادر مضحكة في البروفات. كيف استطعن مغالبة مثل هذا القهر؟ أعتقد أن الجواب كان يأتي من آخرين، لبنانيات ولبنانير كنا نصادقهم باستمرار، فيبتسمون لنا على الدوام، ويقدمون يد العون كلما استطاعوا ذلك. لم نكن لنمضي
بدون هؤلاء
أيضاً. فالعالم، وبيروت حصتنا القسرية فيه، سيكون موحشا حقاً بدونهم. بيروت اللدودة، المتوترة أبداً، بقيت تعاند تغوّل الوحشية والقسوة في قلبها، تعيد لنا على الدوام، عبر أبنائها، أملا كنا خسرنا٥ للتوّ جراء اصطدامنا بأبناء آخرين لها.

قبل أيام من العرض، قدمت فرح، التي اضطرت الى ترك بيتها وأرضها في ريف حلب، لتمكث مع زوجها وأطفالها الأربعة في غرفة رطبة في شاتيلا، وطلبت مني إضافة قصة جديدة إلى حكايتها التي ترويها في المسرحية. قالت إنها لا بد من أن تتحدث عن جارتها اللبنانية أم خالد، التي جعلت من حياتها ممكنة في المخيم، مصرّة عل أن مسرحيتها ستكون ناقصة بدونها. حاولت جاهداً أن أقنعها بأن نصنا قد انتهى، لكن أم خالد هي بيروت فرح، فلكل منا بيروته الحميمة التي يلجأ إليها حين تضيق عليه شوارع المدينة القاسية.

نساء «اًنتيغون» كن يعملن أن ضيق أحوالهن يجعل منهن أكثر هشاشة وأكثر عرضة لمواقف عنصرية بغيضة في بيروت، لكنهن حملن هذا كله إلى الخشبة ليواجهن الجمهور الذي سيعرف أكثر عن أرواحهن المرحة المحبة للحياة، وعن دروب شاقة أوصلتهن إلى مخيمات الشتات. يعرفن أن أقدارهن قاسية، لكن أياً منهن لا تنوي الاستسلام في أي وقت قريب. في نهاية كل عرض، كانت اللقاءات بينهن وبين الجمهور تخلط الضحكات الطويلة بعبرات مسروقة أيضاً. جزء بسيط من أحلامهن تحقق، لكنهن يدركن أنه ما زال أمامهن مشوار صعب لمغالبة حياة اللجوء. وهذا الأمر ينطبق على كل اللاجئين السوريين الذين باتوا اليوم يواجهون إجراءات رسمية جديدة من شأنها أن تزيد أوضاعهم صعوبة.


إن قرار الأمن العام الذي صدر في 2014/12/31، جاء ليذكر من جديد بأن التمييز يطاول الفقراء أولأ. هذا القرار المجحف الخاص بتنظيم دخول السوريين إلى لبنان، ومع الثغرات المتروكة فيه عمداً، يقول مواربة إن لا مشكلة أمام الميسورين في الدخول إلى لبنان، أو حتى في تسوية أوضاعهم فيه. أما الفقراء والشغيلة والهاربون من القمع، فهي حدود أخرى تغلق أمامهم أو ندفعهم إلى الرحيل إلى وجهات مجهولة! والواقع أن التمييز ضد اللاجئين هنا يتخذ منحى أشد خطورة، فهذه المرة ليست هي فقط ممارسات عنصرية من أفراد أو حتى منابر إعلامية تستخدم خطاب الكراهية ضد الوجود السوري. إنه قرار حكومي، مدعوم من نخب سياسية في لبنان.

ها هو لبنان يضيق بنا أكثر فأكثر، لكننا مجدداً لا نجد ملجأً من قسوته إلا عند أبنائه. يسارع لبنانيون أفراداً وجمعيات إلى مناهضة هذا القرار وإبطاله. يقام اعتصام أمام المتحف، وحملات في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. ينطلق تحرك قانوني من المفكرة القانونية مصحوبة بجمعيات أخرى معها، للحشد ضد هذا القرار. فهؤلاء يشاركون السوريين قلقهم ويقدمون دعمهم اللا مشروط لهم، مذكرين بأننا سوية نواجه أخطاراً عظيمة إن استسلمنا لسياسات التمييز وخطاب الكراهية، وأننا وإن كنا لسنا في موقع قوة اليوم في بلاد تمزقها الحروب وتطحنها مصالح نخب سياسية، لكننا لسنا قلة، وبالتأكيد لسنا ضعفاء، لذا لا نملك إلا أن نعمل معاً ليسود وجه بيروت المحتضمن للغريب عل وجهها الآخر النابذ له، حتى لو بعد حين.

A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد