"يا مريمَ"

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 أيار 14 4 دقائق للقراءة
"يا مريمَ"
كانت تجوب الأزقّة الموحلة بقدميها الطريتين الحافيتين.. ترى أولاداً يلعبون بكرة بالية، فتقترب منهم بخجل، تحاول مشاركتهم اللعب، إلاّ أنّهم ينهرونها ويبعدونها عن البقعة التي جعلوا منها «ملعباً». يصرخون في وجهها «لا مكان للفتيات في لعبتنا».
لبنانيّة. تنظر من حولها، تتردّد، لبرهة، ثم تعيد رمي القطعة المعدنيّة على الأرض.
تتذكر أنها خرجت مكلّفة بمهمّة. عليها أن تذهب إلى «المركز» وتسأل متى يحين دور ذويها لقبض «مستحقات اللجوء».
في المركز شابةٌ لطيفة وسيّدة تبدو حانقة طوال الوقت. تحاول مريم تجنّبها، إلّا أنّ الأخيرة تلمحها فتهتف في وجهها: «نعم؟ ماذا تريدين أنت الأخرى؟». تحاول الشابّة التدخّل لتطرية الأجواء، إلّا أنّ الذعر كان قد تملّك مريم. تقف محدّقةً بالسيدتين بنظرة حائرة، وقد احمرّت وجنتاها. تحاول تذكّر ما جاءت من أجله، ولا تقوى على الكلام.
فجأة، أطلقت ساقيها للريح. ظلّت تجري حتى وصلت إلى الخيمة المتهالكة. رأت أمها تطعم أخاها في إحدى الزوايا، فيما كان والدها يتربّع أرضاً، يستمع إلى أخبارٍ ترد من جهاز «راديو» قديم. رفع نظره صوبها وسأل: «ماذا قالوا لك؟»
أصيبت بالذعر مجدداً. عادت تجري حتى تسلّقت التلّة القريبة، وجلست على «قمّتها»، محاولةً الابتعاد قدر الإمكان عن النفايات المكدّسة في المكان...
أغمضت عينيها، ورحلت في مخيّلتها إلى أرض الدار المظلّلة بالعريشة، تتوسطها النافورة الصغيرة، وإلى يمينها شجرة النارنج ورائحتها الساكنة في المكان.
كم تشتاق الى سناء.
كانت أمّها قد علّمتها كيف تجمع الخرق القديمة، وتحيكها، وتحشوها، حتى تصنع دميةً على شكل فتاة. من يومها، لم تكن سناء تفارق يد مريم. حتى عند ذهابها إلى المدرسة، كانت تخبئها في حقيبتها، وتحرص على ألاّ يعلم أحد بسرّها. وحين تأوي إلى سريرها، كانت تحكي لسناء أسرار يومها، ثم تحضنها وتغفو.
ولكن، في ذلك اليوم، حين اهتزّت الأرض تحت قدمي مريم، وتصاعدت ألسنة اللهب في المكان، وسال دَمُ أحمر في أرض الدار، لم تدر الفتاة كيف التقطتها يد أمها، وكيف جرّتها جراً وهي تجري خلف أبيها الذي كان يحمل أخويها الصغيرين.
صارَت تبكي وتصرخ تريد العودة لإحضار سناء، إلّا أن أصواتاً أخرى كثيرة كانت تعلو فوق صوتها.
لا تذكر الكثير. تذكر أنهم مشوا طويلاً، وتمزّقت ثيابهم وأحذيتهم. جاعوا وعطشوا. ناموا في البراري. انضموا إلى آخرين مثلهم. ثم، وجدت نفسها في تلك الخيمة ... بلا سناء.
سالت دموعها على خدّيها. هي تكره الدمية التي صنعتها لها أمها هنا. تراها غريبة، وتشعر بأن الدُمية ترمقها بنظرات تعالٍ حيناً، وبنظرات شفقة أحياناً. الدُمية الجديدة تشبه أهل هذه البلاد. أمّا سناء فمثلها، حلبيّة.
عندما قررت مغادرة التلّة، كانت الدنيا قد أظلمت. مشت شاردة مدندنة كعادتها، فلم تشعر باليد الخشنة التي امتدّت من باب السيّارة السوداء، وشدّتها حتى أدخلتها إلى حيث كان الرجال الثلاثة. بعدها، انطلقت السيارة بسرعة واختفت. ومعها اختفت مريم.
اسمها مريم. كانت من حلب. فيها ولدت قبل أعوام. جالت في أزقة مدينتها القديمة إلّا أنها لم تكن تعرف أن كل ما يحيط بها قد صُنّف تراثاً للعالم كلّه منذ العام ١٩٨٦.
كانت تحب المباني المتنوّعة التي تميّز مدينتها، إلّا أنها لم تكن تعرف أن ذلك التنوّع ناتج من تلاقي أنماط معماريّة سلجوقيّة وبيزنطيّة بالإضافةً الى الطرازات المملوكيّة والعثمانيّة، في المدينة التي تعدّ من أقدم المدن المأهولة في العالم.
كانت تحب التحديق في المباني القديمة، إلاّ أنّها لن تعرف يوماً أن بعض تلك المباني يعود الى القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد، مثل الخانات والمدارس الدينيّة والحمّامات، بالإضافة إلى المباني الدينيّة كالجوامع والكنائس.
لمّا كان الجوع يقرص معدتها الصغيرة، لم تكن تعرف أن مدينتها، حيث تتمازج الأديان والإثنيات، قد فازت في العام ٢٠٠٧ «بجائزة التذوّق العالمية» التي تمنحها أكاديمية الطهو والتذوّق العالمية في فرنسا.
لن تعرف مريم أنها تركت سناء في مدينة الفن والفنون، عاصمة الطرب الأصيل في الوطن العربي، حيث تتنوّع الفنون من الموسيقى والغناء والتمثيل والفن التشكيلي.
ربما، لو كان الزمان غير الزمان، لارتادت مريم الصبيّة إحدى مدارس حلب الفنيّة الكبرى، وتتلمذت على أيدي كبار في الفن التشكيلي. ربما فضّلت الخط العربي أو ربما اتجهت نحو الأدب والشعر، على طريق عمر أبو ريشة وغيره الكثيرين.
هي من حلب، حلب التي وحتى من قبل أن يحكمها سيف الدولة المولّع بالعلوم، أنتجت عدداً من الأطباء والعلماء الشهيرين، ومن الفلكيين والفلاسفة والمفكرين الكبار مثل الفارابي وابن سينا. على أرضها عاش المتنبي، وأبو فراس الحمداني، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني»، وغيرهم وبعدهم الكثيرون.
اسمها مريم. ولدت في المكان الصحّ، وفي الزمان الخطأ.
ابنة حلب مشرّدة في مخيم للاجئين لا يعرف أحد متى سيعودون إلى ديارهم، تضيق بهم الدنيا، ويضيقون بغربتهم.
اسمها مريم. ولدت في حلب قبل أعوام. ابتلعت أرض غريبة عودها الطري قبل أن يتسنّى لها أن تعرف في أي كنز ولدت.
قبل ستّين عاماً، كانت هناك مريم أخرى، تجوب أزقّة موحلة في أرض غريبة. هي أيضاً كانت تتوق إلى العودة حيث كانت سناؤها تنتظرها، في يافا.
A+
A-
share
أنظر أيضا
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
أحدث فيديو
تحميل المزيد