"تيك توك" هو المنصّة المفضلة لمقاطع الفيديو "الترندي"، وجمهوره لم يعد يحصر بالفئات الشابة والمراهقين والأطفال. من يتصفّح التطبيق اليوم يلمس التحوّل الجذري في المحتوى، أو الأصح، يلمس الهدف الحقيقي من تأسيس هذا البرنامج. كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية والإنتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة... كلها حاضرة. مقاطع الرقص والتحديات والطعام موجودة كغلاف لما انشأ التطبيق لأجله، فالمغزى من "تيك توك" أكبر من ذلك بكثير.
تحوّل برنامج الرقص المحبّب لدى الملايين إلى منصة لقمع حرية التعبير في الفترة الأخيرة. تجلى ذلك مؤخّراً في دراسة أجرتها إذاعتا "إند.دي.آر ودبليو.دي.آر" وخدمة "تاجيسشاو"، حيث توصّلت إلى أنّ "تيك توك" تستخدم مرشحات لحجب تعليقات تحتوي على كلمات معينة مثل "مثليي الجنس" أو "مجتمع الميم" أو "وغاز". ويتم حذف المحتوى من دون أن يلاحظ المستخدمون وجود هذه الرقابة.
تسابق بين محتوى التسلية والبروباغندا على "تيك توك"
بحسب تقرير نشرته "نيويورك تايمز" في 2020 تحت عنوان: "تيك توك تشكّل السياسة، لكن كيف؟"، تبيّن أنّ التطبيق أصبح مكانًا للتكوين الأيديولوجي والنشاط السياسي. وعلى الرغم من إحجام الشركة الأم عن المشاركة في السياسة، إذ أنها لا تسمح بالإعلانات السياسية، فقد جذبت إهتمامًا من الحملات. واعتبر التقرير أنّ "تيك توك" قامت بتضخيم لقطات وحشية من احتجاجات "Black Lives Matter" في جميع أنحاء العالم.
أصرّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على بيع "تيك توك" نفسه لشركة أميركية أو أن يتم حظره في الولايات المتحدة. يُذكر انّ عدد مستخدمي التطبيق في البلاد يتعدى الـ130 مليون مستخدم حتى نيسان 2022، وهي الدولة الأكثر إستخداماً للتطبيق. في آب 2020، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً بهذا الخصوص، وكانت شركتا أوراكل وولمارت أكثر المرشحين المحتملين، ولكن بعد ذلك فاز جو بايدن بالانتخابات وتمّ تأجيل البيع.
تشكّل الخوارزمية المعتمة التي يستخدمها "تيك توك" مصدر قلق لخبراء التكنولوجيا، إذ تحصد فيديوهات أرقاماً هائلة من التفاعل من دون أي مبرّر لها. شكّل التطبيق منصّة داعمة للرواية الروسية في الحرب على أوكرانيا، على عكس التطبيقات الأميركية. تتبّعت شركة "ميديا ماترز" حملة منسّقة يقودها 186 من المؤثرين الروس في "تيك توك" الذين ينشرون عادةً نصائح حول الجمال ومقاطع فيديو مزيفة لدعم الرواية الروسية.
وأشار موقع "ذا فيرج" إلى أنّ الأشخاص الموجودين على "تيك توك" يقومون أيضاً بتغيير كيفيّة استخدامهم للتطبيق، إذ يتحول مصدراً للأخبار وليس للترفيه فقط. وتضاعفت نسبة الأشخاص الذين يتلقّون الأخبار من "تيك توك" ثلاث مرات منذ العام 2020، بحسب استطلاع جديد لمركز "Pew Research Center". وبلغت نحو 10 في المئة من جميع البالغين في الولايات المتحدة، فيما يصل الرقم إلى 26 في المئة بالنسبة إلى البالغين الذين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
وجد مركز البحوث أن "تيك توك" أصبح أشبه إلى بالتطبيقات الإخبارية على عكس المنصّات الأخرى. على سبيل المثال: قال 54 في المئة من البالغين على تطبيق "فايسبوك" إنهم يتلقون الأخبار هناك في العام 2020؛ أمّا الآن، فانخفض هذا الرقم إلى 44 في المئة. في غضون ذلك، ظلّ موقع "يوتيوب" ثابتاً خلال السنوات القليلة الماضية، مع حصول نحو ثلث المستخدمين على الأخبار من المنصة.
1 من كل 5 مقاطع فيديو على "تيك توك" تحتوي معلومات مضللة
1 من كل 5 مقاطع فيديو تقريباً تحتوي على معلومات مضللة على "تيك توك". إذ وجد باحثون في "NewsGuard" أن البحث عن معلومات غير مضللة قد يؤدي إلى نتائج ذات معلومات مغلوطة، مثلاً عند البحث عن "تغير المناخ" قدّم التطبيق نتائج تتعلق بإنكار علوم المناخ.
"التقرير الذي يتحدث عن أن كل تقرير من خمسة تقارير يحتوى معلومات مضللة، يمكن أن نضيف إليها نسبة التقارير التي تحتوي معلومات غير مؤكدة او نهائية، أو التحليلات والتعليقات السياسية، والتكهنات والتنجيم"، يقول الاستشاري والمدرب في مجال التحقق من الأخبار وإدارة المؤسسات الإعلامية داوود إبراهيم.
"الخشية في منصات مثل "تيك توك" وغيرها، أن كثرة المتابعين تضفي نوعاً من المصداقية المفترضة، وهي مصداقية وهمية غير حقيقية". إلا أنّها في الحقيقة لا تدفع أو تعطي إشارة للمتابعين عن صحة المضمون أو موثوقيته. وبحسب ابراهيم، الأدهى أنّ الجمهور الذي تتم مخاطبته على "تيك توك" من مراهقين وأطفال، غالباً لا يملك المعرفة أو الوعي للبحث والتحقق مما يتم عرضه عليه. بالتالي "تتحول هذه المنصات إلى مجرد ناقل لمواد من دون التحقق منها او التثبت من صحتها".
تحوّلت الحرب الأوكرانية - الروسية إلى أرضٍ خصبة للأخبار الزائفة خصوصاً على "تيك توك". تمكّن أحد هذه الحسابات من الوصول إلى ما يقرب من 30 مليون مشاهدة بحلول منتصف آذار، واحتوت جميع مقاطع البث المباشر لهذا الحساب، باستثناء ثلاث منها، مقاطع قصيرة مأخوذة من فيديوعلى يوتيوب لتدريب عسكري أوكراني قديم، يعود تاريخه إلى عام 2017.
يلجأ المستخدمون إلى مقاطع فيديو مثيرة لصراع قديم أو لتدريبات العسكرية، ويضيفون عليها صوتًا مزيفًا لانفجار ضخم أو إطلاق نار مكثف، ويبدأ بثًا مباشرًا، وبمجرد أن يبدأ جمهور كبير في التجمع، يطلب التبرعات لقناتهم. تتطورت عمليات البث المباشر حتى أصبح التسجيل الصوتي المزيف لطلقات نارية شائعًا لدرجة أنه ظهر في أكثر من 13 ألف مقطع فيديو.
وعن الدعاية السياسية والأخبار الزائفة يعلّق إبراهيم: "قد يعتبر البعض أنّ الدعاية السياسية هي أخطر ما يمكن أن يتعرض له جمهور منصة مثل "تيك توك"، ولكن الحقيقة أن الأخبار التي تتعلق بالصحة أو المجتمع أو القانون أو البيئة قد تكون أخطر بكثير".
تصديق أخبار حول العلاج من مرض ما، أو حول سلوك ما، أو التحريض على العنف والكراهية والعنصرية، هي "مسائل يغص بها هذا الموقع أو المنصة" وهي تهدد مستقبل البشرية لأن الجيل الشاب هو الذي يتعرض لها ويتبناها، بحسب وصفه.
المحتوى الصحي الزائف على "تيك توك"... ومبادرة لافتة نشأت لمحاربته
على الرغم من إجراءات "تيك توك" لوضع لافتات تحذيرية على المقاطع المضللة، إلا أن دراسة وجدت أن 58 في المئة من المقاطع الكاذبة حول اللقاحات تفتقر إلى اللافتات هذه. سادت وسائل التواصل الاجتماعي أخباراً كاذبة خلال المراحل الأولى من كورونا، لدرجة أنها وُصفت بـ"الوباء المعلوماتي" قبل أن تكون وباءً صحيا.
شاقة هي مهمة مكافحة الأخبار الصحية الخاطئة بشكل عام، نظراً إلى الحجم الهائل للمنشورات غير الدقيقة. في بدايات القرن الواحد والعشرون، تولّدت مخاوف لا أساس لها من الوجود عن صلة بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية والتوحد، ما خفّض معدلات تطعيم الأطفال (نحو 10%)، ما أدى بدوره إلى ارتفاع كبير في حالات الحصبة، وهذا يعكس حجم تأثير هذه الشائعات على متلقّيها.
قرّر الصيدلاني وطالب الطب المقيم في أستراليا، مصطفى ظاهر، أن ينشر مقاطع فيديو على "تيك توك"، لمحاربة الشائعات والأخبار الزائفة المرتبطة بالصحة. وظاهر جزء من مجموعة أطباء ومتخصصين في مجال الرعاية الصحية وأكاديميين، يعملون على فضح المعلومات الصحية الخاطئة على التطبيق. وتستعرض المقاطع التي ينشرونها الفيديوهات الأصلية التي تروج للأكاذيب الصحية، وإلى جانبها ردودهم عليها وتصويبهم على الأخطاء المتضمنة فيها.
في تصريح سابق، قال مظهر لـ"نيويورك تايمز": "أكثر ما يزعجني أن الأشخاص الذين ينشرون هذه الشائعات يستخدمون المعلومات المضللة مع جزء من الحقيقة لنشر أكاذيبهم". بدأت مهمة ظاهر في الرد على الادعاءات الكاذبة على في بداية كورونا، وحذّر في حديثه للتايمز من أن "المعلومات المضللة تؤثر على القرارات الطبية والصحة".
من جهة أخرى، وبعد موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على قانون ينص على تجريم نشر معلومات كاذبة بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وفرض عقوبة السجن لمدة تصل إلى 15 عاما، أعلن "تيك توك" تعليق بعض خدماته في روسيا، بسبب القانون. كما أنه تمّ تعليق البث المباشر ومشاركة المحتوى الجديد من روسيا، بالإضافة إلى أن المستخدمين الروس لن يكونوا قادرين على مشاهدة المشاركات في البلدان الأخرى.
تصفح "تيك توك" بات يستهوي الكبار قبل الصغار خصوصاً في بلاد تسودها الأزمات والصراعات. سكان هذه البلدان باتوا يرون بالتطبيق الصيني ملاذاً للترفيه عن النفس، إلا أن غالبيتهم يجهلون التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف. الأخبار الكاذبة هذه كفيلة بتكوين الوعي الزائف خصوصاً لدى الشباب، وخلق البروباغندا السياسية، وإيذاء الشخص من خلال المعلومات الصحية المغلوطة مثلا... وكفيلة بتهديد الاستقرار الاجتماعي والمصالح العامة.