اليوم، نعيش في نموذج مختلط، بالأحرى نموذج يجمع بين عدم الاتصال بالانترنت والاتصال بها، إنه العالم الرقمي. وفي هذه البيئة المختلطة، غالباً ما تحدد التكنولوجيا تصرفنا، التكنولوجيا التي توحد الناس لبلوغ حالة "الثقافة الأحادية"، والتي يمكن أن تكون أيضاً عاملاً من عوامل الانقسام.
لكن، بعبارات أخرى، هل سبق واتصل تاريخنا بالإنترنت؟
ما معنى: الاتصال بالإنترنت أو التاريخ الرقمي؟ يعني ذلك الوصول الآني غير المسبوق إلى مخزونات واسعة من المعرفة والثقافة الإنسانية، بل ببساطة وابل من القصص الرقمية. وستواجه الأجيال المستقبلية مقداراً هائلاً من "الماضي" المحفوظ جيداً. لكن في نهاية المطاف، إن رؤية شيء لم يكن أبداً "من المفترض" رؤيته ليس مقبولاً لدى الكثيرين.
وجسَّد كل أنطوني طويل وسيدريك قيّم البالغين من العمر 30 عاماً في البودكاست الخاص بهما باسم "معبر" كيف يمكننا استخدام النموذج الرقمي للتعامل مع ماضينا. وإذ يدعيان أنهما ليسا بمؤرخين ولا بعالمين سياسيين، فقد أرادا تغليب الكلام على الصمت من خلال 60 شهادة ومقطعاً من الحياة في زمن الحرب قاما بجمعهم.
وعالج "معبر" الماضي، الذي لا تسمع عنه شيئاً في الشوارع، على طريقة الاجتماع على مائدة العشاء. ولامس "معبر" ذاكرتنا، لأنه من الصعب تخيل شيء أكثر شخصانية وإنسانية من الذاكرة.
إن الموقف العام هو: لا تتكلموا عن الحرب. لمَ فتح جراح قديمة، لمَ التعرض للتوتر والانزعاج، كل شيء تُرك في الماضي، لمَ لا تتم الموافقة على عدم الموافقة وعدم التعامل معه أبداً من جديد؟ لا يتفق التعامل مع صدمة الماضي مع تجنب التفكير به. فثقل ذاكرة الحرب لا يزال قائماً في ذاكرة كل شخص، حتى الأشخاص الذين لم يعيشوا الحرب.
ويستطيع التاريخ المنشور عبر استخدام الوسائط الرقمية أن ينقل القصص من الماضي إلى الحاضر، وأن يعطيها معنًى وصلة بالواقع فيما يتم تبادلها عبر الأجيال والمجتمعات والجغرافيات.
لمَ "معبر"؟ "معبر" هي كلمة تقنية تمَّ استخدامها خلال الحرب الأهلية اللبنانية من أجل تحديد المناطق حيث كان يتمركز العديد من حواجز التفتيش العسكرية في كل أنحاء البلاد. كما تشير في العربية إلى فعل العبور من نقطة إلى أخرى.
وهذه هي الفكرة التي يسترشد بها عمل طويل وقيّم: مساعدة كل مستمع على الانتقال من فكرة غامضة وتصور أحادي للنزاع إلى معرفة مستنيرة بدرجة أكبر. لقد اقترحا مفاتيح من أجل "العبور" إلى الآخر.
وأفضى ذلك إلى 12 حلقة من سلاسل البودكاست تُختصر بنوعين هما: التاريخ الشفهي والوثائقيات، في ظل الغوص في طبقات مما تمَّ معايشته وتذكره ومما بالتالي لا يزال موجوداً.
ويتتبع البودكاست المواضيع والتجارب المشاركة، مستبعداً الزمان والمكان، ومفسحاً المجال أمام فتح حوارات مختلفة بشأن الحرب. ولا ينشغل أحد بما يمكن أن تكون عليه أسماؤنا، ومن أين أصلنا، ومن نكون معه، بل يستكشف بدلاُ من ذلك ما الذي عشناه معاً، وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلينا اليوم.
ويعتبر أنطوني أن "معبر" أتى بمثابة بيان من جيل ما بعد الحرب للقول إنه لا يمكننا المضي قدماً في إعادة بناء قضايانا الاجتماعية ومعالجتها في أيامنا هذه من دون النظر إلى الوراء والتحدث عما حصل في الماضي. ويقول أنطوني إن "معبر" حقق هدفه بمجرد تواجده.
وتلعب الوسائط الرقمية، مثل البودكاست، دوراً كبيراً في إلهام الأجيال المستقبلية لاستخدامها للبناء في المجال الأكاديمي، سواء في المشاريع أو الأبحاث أو العروض المسرحية أو سواها، بما يكسر حاجز الخوف من الآخر.
يقول المبدع المشارك: "لا يوجد آخر، فالآخر هم موظفون سياسيون تمَّ خلقهم لخدمة دعاية محددة".
ويجب على جيلنا أن يناقش تاريخ لبنان المعاصر لأنه لا يمكن صنع مستقبل من دون العودة إلى 15 عاماً من زمن الحرب التي مرَّ بها لبنان والشعب اللبناني. ببساطة، لا مفر من الحديث عن الماضي، والتعامل معه أمر ضروري للاستفادة مما يقوم به العديد من المبدعين في النموذج الرقمي الراهن.
تكمن "الإضافة" في استخدام الوسائل الرقمية في مناقشة مواضيع "شائكة" مثل الحرب الأهلية اللبنانية، والتي غالباً ما تكون مفعمة بالطائفية والسياسة، في أنه يمكننا أن نختبر حرية الخطاب الحقيقية بما يتجاوز أي حالات رقابة أو قيود سياسية.
"لقد طرحنا من خلال معبر موضوع الحرب الأهلية اللبنانية بطريقة روائية حيث لا يوجد راوٍ يتبع سيناريو محدداً وتسلسلاً زمنياً معيناً ودائماً مع الإبقاء على الهوية مجهولة".